باتت المنطقة تعيش حالة من الترقب نتيجة التصعيد الحاصل على وقع العدوان الإسرائيلي في غزة، حتى إن البعض بات يرى أن احتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة بات وشيكا، وأن شرارة هذه الحرب قد تنطلق من التوتر الحاصل في
الشرق الأوسط؛ فقد تصاعدت حدة التوترات نتيجة الموقف الأمريكي الداعم للكيان الصهيوني، في ما يمارسه من إبادة جماعية في الأراضي الفلسطينية، ومن ثم تعرض الوجود الأمريكي في المنطقة إلى مختلف الهجمات من فصائل قريبة من
إيران، وكانت إدارة بايدن تتعاطى مع التهديدات والضربات بحذر وثقة بأنها قادرة على احتواء الأزمة، فكان الأمر يسير وفق سياق أشبه بقواعد اشتباك غير معلنة، ضربة هنا يتم الرد عليها هناك، أو سكوت الطرفين على ضربات غير موجعة، يتم استيعابها دون اي رد فعل سوى التهديد.
من جانبها، الفصائل والحركات القريبة من إيران، التي تعتبر أذرعا فاعلة في
العراق وسوريا ولبنان واليمن، كانت تتعاطى مع التصعيد وفق قواعد الاشتباك المشار لها، إذ بدت الضربات في الكثير من الأحيان نوعا من رسائل الدعم للفصائل الفلسطينية المقاتلة في غزة، من دون تأثير حقيقي وملموس على الوجود الأمريكي في المنطقة، باستثناء الموقف جنوب البحر الأحمر الذي حصل نتيجة هجمات حركة أنصار الله الحوثية، التي تسببت في شلل جزئي في حركة الملاحة في مضيق باب المندب، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة، تعاونها قوى حليفة، لشن حرب جوية تستهدف ضرباتها القليل المتبقي من البنية التحتية في اليمن الشمالي الخاضع لسيطرة الحوثيين.
لكن الضربات المتفرقة التي طالت الوجود الأمريكي انطلاقا من الفصائل الحليفة لإيران في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وفق قواعد الاشتباك، التي تقف في مقدمة ضوابطها عدم إيقاع خسائر بشرية في القوات الأمريكية، خُرقت في الضربة الأخيرة التي نفذتها (المقاومة الإسلامية في العراق) يوم الأحد 28 كانون الثاني/يناير بطائرة مسيرة طالت قاعدة البرج 22 شمال الأردن، قرب قاعدة التنف داخل الحدود السورية، وأوقعت ثلاثة قتلى وجرح أكثر من ثلاثين عسكريا، هذه الضربة غيرت موازين وقواعد الاشتباك، وأصابت هيبة الولايات المتحدة بضربة موجعة، لذلك انطلقت التحليلات والتوقعات في محاولة لقراءة السيناريوهات المتوقعة للأحداث التي ستشهدها المنطقة.
تصريحات الفرقاء؛ الأمريكيين والإيرانيين وحلفاء إيران، التي انطلقت بعد الضربة كلها، كانت تشير إلى عدم رغبة الجميع في تصعيد الصراع والوصول به إلى حرب إقليمية شاملة، وعندها بات السؤال المركزي في هذه الأزمة هو: كيف سيرد بايدن على الهجوم الأخير؟ ووفقا لمراقبين على معرفة جيدة بالوضع الإيراني، رأوا أن صناع القرار في طهران على يقين بأن إدارة بايدن تكره المخاطرة بالتصعيد في عام الانتخابات، وهم على حق بقدر ما لا يريد الناخب الأمريكي جر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، لكن ومن جانب آخر يرى هؤلاء المحللون أن هنالك سوء تقدير من طرف طهران، يكمن في عكس عقلية الجمهور الإيراني بشأن فقدان أحد أعضاء الحرس الثوري الإيراني، على عقلية الجمهور الأمريكي بشأن فقدان أفراد الخدمة الأمريكية، وهم لا يعرفون أن الأمريكيين يهتمون بهذا الأمر جدا، وسوف يمنحون رئيسهم صلاحيات أكبر نتيجة لذلك.
أصبح توقع رد بايدن المحتمل، وفقا للهدف (منع إيران من إيذاء المواطنين والمصالح والشركاء الأمريكيين) محددا بخيارات قليلة، فالخيار الأول: شن ضربات داخل إيران ضد قوات الجيش الايراني وآلته الحربية ورموزه الوطنية، ما يمثل ضربة مهينة أعنف من قتل ثلاثة جنود أمريكيين، لكن المراقبين يشيرون إلى أن هذه القدرات ليست السبب في ما تتعرض له الولايات المتحدة من مشاكل. أما الخيار الثاني، فهو شن ضربات داخل إيران ضد قواعد الحرس الثوري الإيراني ومخزوناته من الأسلحة، وتحديدا القدرات الصاروخية التي أصبحت كابوسا يقلق المنطقة، لكن هذا الخيار سيزيد احتمالية اشتعال حرب إقليمية في حال رد الحرس الثوري بضربات صاروخية على المصالح الأمريكية في المنطقة. بينما كان الخيار الثالث، شن ضربات ضد المنشآت والقوات الإيرانية الداعمة لأذرعها في المنطقة، مع العلم أن هذا الخيار لن يمثل ضمانة حقيقية لردع إيران وحلفائها عن تنفيذ مزيد من الضربات في المستقبل.
وبينما تتصاعد صيحات الجمهوريين في واشنطن مطالبة الرئيس بايدن بموقف صارم تجاه المتسببين بإهانة الهيبة الأمريكية، ويطالبونه بتنفيذ عملية انتقامية تستعيد بها القوات الأمريكية كرامتها، يرى الديمقراطيون أن إدارة بايدن في عام الانتخابات تعاني من أزمة خانقة، وتوازن عصيب بين التركيز على الصراع مع الصين في الشرق الأقصى من جهة، وتحديات التصعيد الروسي في أوروبا، وتحديدا في الحرب الأوكرانية من جهة ثانية، يضاف لها الأزمة الحالية في الشرق الأوسط، والموقف الخانق الذي حشرت إدارة بايدن نفسها فيه، نتيجة دعمها غير المشروط للعدوان الإسرائيلي في غزة، والنتيجة لن تتمكن هذه الإدارة من أن تتوسع في ملف الصراع في الشرق الاوسط، وهذا يعني أنها ستكتفي بتوجيه ضربات محدودة لحفظ ماء الوجه. لكن صقور الجمهوريين يطالبون الرئيس بايدن باتخاذ خطوات قد تصل إلى إطلاق عملية عسكرية، شبيهة بعملية (فرس النبي) التي أطلقها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في نيسان/أبريل 1988؛ إذ طالب ماثيو كروينغ مدير الدراسات في مركز المجلس الأطلسي، باستهداف البحرية الإيرانية، أو قيادات عليا أو برنامجها النووي. وأوضح: «لقد كانت الولايات المتحدة حذرة في ردها على الضربات السابقة؛ لأنها تخشى التصعيد، لكن هذا المنطق كان مضللا. وعلمت إيران أنها قادرة على شن هجمات دون عقاب». واقترح كروينغ أن يقوم الجيش الأمريكي بإغراق البحرية الإيرانية وضرب قواعدها، مثلما فعل الرئيس رونالد ريغان في أبريل عام 1988، عندما تعرضت فرقاطة أمريكية للاصطدام بلغم بحري إيراني كاد أن يغرقها، وعلى إثر ذلك أطلقت إدارة ريغان العملية العسكرية «فرس النبي»، ودمرت منشآت بحرية واستخباراتية إيرانية على منصتي نفط في الخليج، وفقدت إيران حسب مصادر أمريكية، نصف الأسطول العملياتي نتيجة هذه العملية، كما قتل في الاشتباكات 55 عنصرا من البحرية الإيرانية. لكن يبدو أن قرار إدارة بايدن اتجه بوضوح إلى ضرب أهداف في العراق وسوريا فقط؛ ردا على ضرب قاعدة البرج 22. وقد نقلت «وول ستريت جورنال» يوم الجمعة 2 شباط/فبراير الجاري عن مسؤولين أمريكيين قولهم؛ إن «الأهداف المنشودة هي القوات والمواقع الإيرانية، والضربات ستكون متعددة المراحل». وجاء الرد الإيراني بتصريح رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، يوم الجمعة 2 شباط/فبراير، بأن بلاده لن تبدأ حربا، إذ قال رئيسي في كلمة نقلها التلفزيون الإيراني: «لن نبدأ أي حرب، لكن إذا أراد أحد الاستقواء علينا، فسيتلقى ردا قويا». لكن يبدو أن إيران وحلفاءها في المنطقة قد تهيؤوا لتلقي الضربة، وهذا ما تم استقراؤه من الزيارة السرية التي قام بها الجنرال قاآني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لبغداد قبل أيام، واجتماعه بقيادات الفصائل الولائية وأوامره لهم بالتوقف عن شن ضربات على الوجود الأمريكي، لحين انكشاف الوضع وانجلاء التوتر الحاصل. إلا أن الأزمة لم تمر، وحدث ما كان متوقعا؛ فقد شنت القوات الأمريكية ضربتها على مراكز للحشد الشعبي في العراق يوم الجمعة الماضي؛ ما أدى إلى استشهاد عدد من قواته.
(القدس العربي)