تصادف أني كنت ما أزال في قراءة كتاب من تأليف السيد وليم بيرنز نشره عام 2019، وعنوانه الرئيس (القناة الخلفية)، وهو سيرة ذاتية- مهنية للرجل أقرأها ببطء لضيق الوقت، وبتركيز ثقيل يتناسب ودسم الأحداث والملاحظات الشخصية للرجل، الذي يدير الآن وكالة الاستخبارات المركزية في واشنطن.
المصادفة التي أتحدث عنها، جاءت حين نشر السيد بيرنز مقاله الأخير في مجلة فورين أفيرز نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، وفيه يتحدث مطولا وبتفصيل يتجاوز قواعد الصمت المخابراتي المعهودة عن مجمل خدمته الدبلوماسية التي قضاها في وزارة الخارجية الأمريكية (ومنها سفيرا في الأردن ثم موسكو)، وانتهى في أعلى السلم الهرمي نائبا لوزير الخارجية من عام 2011 حتى عام 2014.
السيد بيرنز شخصية متميزة بالقدرات والمواهب بلا شك، وهو يتقن اللغتين العربية والروسية، واستطاع ان ينسج شبكة علاقات خاصة وقوية في كل الأماكن التي خدم بلاده فيها.
في مقاله الأخير في "فورين أفيرز"، يلقي السيد بيرنز مساحة إضاءة واسعة للتفكير الأمريكي في المنطقة، خصوصا في الحديث عن تداعيات أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فيقول: (... إن الأزمة التي عجل بها هجوم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، هو تذكير مؤلم بتعقيد الخيارات التي ما يزال
الشرق الأوسط يطرحها على الولايات المتحدة. وستبقى المنافسة مع الصين أولوية قصوى لواشنطن، لكن هذا لا يعني أنها تستطيع التهرب من التحديات الأخرى. وهذا يعني فقط أن على الولايات المتحدة أن تتنقل بحذر وانضباط، وأن تتجنب التجاوز، وأن تستخدم نفوذها بحكمة).
ما أفهمه هنا، أن واشنطن ما تزال تحاول تطبيق سياستها المستحدثة بتغيير الأولويات، ووضع منطقة جنوب شرق آسيا ( المجال الحيوي الصيني) على رأس القائمة، لكن الشرق الأوسط ما يزال يسحبها إليه بالقوة. ما لا يقوله السيد بيرنز هنا، هو أن الانسحاب الفوري بلا حسابات من الشرق الأوسط كارثي، وبلمسة خفيفة يرى السيد بيرنز أن حدث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، مرتبط باستراتيجية التحول الأمريكي المفاجئ في المنطقة، ولا ينكر الرجل أن الخيارات معقدة.
فهو يضيف باستطراد أوسع في مقاله ذاك: (... الشرق الأوسط حاليا أكثر تشابكا أو انفجارا من أي وقت مضى، وإنهاء العملية البرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة، وتلبية الاحتياجات الإنسانية العميقة للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون، وتحرير المحتجزين، ومنع انتشار الصراع إلى جبهات أخرى في المنطقة، وتشكيل نهج عملي لـ”اليوم التالي” في غزة، جميعها مشاكل صعبة للغاية).
بيرنز يرى ان واشنطن (ليست مسؤولة حصرا عن حل أي من مشاكل الشرق الأوسط المزعجة، لكن لا يمكن إدارة أي منها، ناهيك عن حلها، دون قيادة أمريكية نشطة). ويلقي سيد المخابرات الأمريكي رؤية "مرعبة" بسطر مقتضب يقول فيه: (النظام الإيراني أصبح أقوى في الأزمة الحالية، ويبدو مستعدا للقتال حتى آخر امتداد إقليمي له).
وعودا على بدء..
في كتابه الذي أسير فيه ببطء شديد والمنشور عام 2019، يقول السيد بيرنز مستحضرا ذاكرته المهنية عن حرب الخليج عام 2003 في إدارة جورج بوش الابن؛ إنه تقدم بمذكرة تحذيرية كان عنوانها "العاصفة المثالية"، وشبهها بالترياق المعالج للافتراضات الأمريكية "الوردية" والمتهورة.
وينهي ذاكرته المدونة عن هذا الموضوع بقوله: (... ما لم نفعله، كان اتخاذ موقف صارم ضد الحرب تماما، في النهاية، قمنا ببعض اللكمات. لماذا لم أذهب إلى آخر الأمر في معارضتي أو أستقيل؟ ما زلت أجد إجابتي مشوهة وغير مرضية)
أتساءل عند هذه النقطة بتخيل افتراضي: ماذا يمكن ان يكتب السيد بيرنز بعد نهاية خدمته مديرا للاستخبارات عن كل ما يحدث الآن؟ هل سيصطدم أيضا بعدم الرضا والإجابات المشوهة على تساؤلاته؟
(الغد الأردنية)