من النتائج غير المقصودة لاستفاقة الوعي الطلابي في الجامعات الأمريكية على بشاعة حقيقة الكيان الاستيطاني الصهيوني، وعلى أحقية حركة التحرر الوطني
الفلسطيني بالدعم السياسي العالمي، دعما مبدئيا كاملا بلا استدراكات ولا استثناءات ولا «نعم… ولكن»، أن الإنسانية اكتشفت كيف أن كبريات الجامعات الأمريكية ليست معاقل للفكر المستقل والبحث النزيه والتعبير الحر في جميع الأحوال، بل إنها مؤسسات ربحية، غالبا ما تتأثر بميول كبار مموليها أو ضغوطهم؛ نظرا إلى أن نموذجها الاقتصادي يعتمد في المقام الأول على تبرعات أثرى الأثرياء، (وكثير منهم يهود أو صهاينة يجمعهم الهوس بإسرائيل)، قبل الاعتماد على الرسوم الباهظة التي يدفعها الطلاب.
وعلى عادة الإعلام الغربي في التلطيف والتهوين كلما تعلق الشأن بتغلغل النفوذ الصهيوني في شرايين الحياة الأمريكية، فإن الـ«نيويورك تايمز» قد عبرت عن هذه الحقيقة بجملة فضفاضة، مفادها أن «أصحاب المال الوفير صاروا قادرين على تحويل قوتهم المالية إلى قوة اجتماعية». هكذا! بينما التعبير الدقيق عن هذه الحقيقة، هو أن أقوياء أمريكا وأغنياءها متجندون لمعاقبة كل من يجرؤ على المساس بالبقرة الإسرائيلية المقدسة بالتقييم الواقعي، أي كل من يمارس حرية التفكير والتعبير بشأن هذا الوحش، الجاثم بخرافاته البدائية على صدر الرأي العام في أكثر بلدان العالم تقدما علميا!
وقد كان من مظاهر هذا العقاب، أن اليمينيين والصهاينة من أعضاء مجلس إدارة جامعة هارفارد، مارسوا ضغوطا محمومة لحمل رئيسة الجامعة كلودين غاي (وهي أول رئيسة أفريقية ـ أمريكية في تاريخ الجامعة العريقة) على الاستقالة؛ بسبب عدم إظهارها قدرا كافيا من التعاطف مع إسرائيل في أعقاب أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر. ولتعزيز ضغوطهم، مع حرف الأنظار عن الدافع السياسي، شنوا على غاي حملة تشويه إضافية، تذرّعت بحصان طروادة أكاديمي هو زعم ارتكابها عددا من السرقات العلمية.
وبالفعل، عدّد الباحثون المستقلون قائمة من الاقتباسات التي ضمّنتها غاي دراساتها المنشورة دون أن تتوخى الدقة في إحالة القارئ على مصادرها. ولكن، هذه مجرد ذريعة. والدليل أن هؤلاء الأثرياء الذين يتزعمهم الملياردير بيل آكمان، قد أنزلوا العقاب ذاته برئيسة جامعة بنسلفانيا ليز ماغيل، وها هم يسعون الآن لمعاقبة رئيسة جامعة أم. آي. تي سالي كورنبلوث بالمثل.
كبريات الجامعات الأمريكية ليست معاقل للفكر المستقل والبحث النزيه والتعبير الحر في جميع الأحوال، بل إنها مؤسسات ربحية غالبا ما تتأثر بميول كبار مموليها أو ضغوطهم.
ذلك أن الجامع بين النساء الثلاث ليس جرائم السرقة الأكاديمية، بل جرائم عدم الانحطاط إلى درك الغلوّ اللازم في التعاطف مع إسرائيل، وعدم إبداء الأسى الكافي في التفجّع على قتلاها وأسراها. أما الدليل الآخر، فهو أن بيل آكمان حمل لواء الأمانة الأكاديمية في حالة كلودين غاي، ولكنه رماه أرضا في حالة زوجته التي كانت من أساتذة هارفارد، حيث كان قد دافع عنها ضد اتهامات السرقة الأكاديمية التي وجهت إليها هي أيضا.
وربما يكون تفاني جو بايدن في خدمة إسرائيل والتعامي الممنهج عن مذابحها، هو سبب تغاضي هؤلاء الصهاينة عن «سرقة» قديمة كان قد ارتكبها قبل حوالي 35 عاما؛ فقد ألقى بايدن في أيلول/سبتمبر 1987 خطابا تضمّن اقتباسات كثيرة من خطاب لزعيم حزب العمال البريطاني آنذاك نيل كينّوك، ولكن يبدو أن بايدن «نسي» أن ينسبها لصاحبها. ولا أذكر أني رأيت على مدى العقود الماضية أي تذكير بهذه الحادثة في الإعلام، رغم أن المعروف أن الفضيحة حرمت بايدن من تحقيق طموحه بالترشح لرئاسيات 1988. ولكن الحق أن نيل كينّوك قد سامح وغفر قائلا؛ إن «بايدن رجل نزيه»، وإن ما حدث مجرد زلة سببها السهو.
تذكرت حادثة 1987 هذه لما جاء في الأخبار أن بايدن قال: هاتفتُ السيسي رئيس المكسيك، كما خلط في التسمية بين ماكرون وميتران. على أن الباجي قائد السبسي رحمه الله كان قد سبقه إلى الخلط بين اسمي أولاند وميتران لما ألقى كلمة ترحيب بأولاند في تونس، فلم يزد أولاند على أن تبسّم وتفهّم؛ ذلك أن من ظروف التخفيف في هذه الحالة، أن ميتران وأولاند يشتركان في الاسم الأول (فرانسوا). وقد لمست في محاوراتي مع الكتّاب والمفكرين، أن بعض الأسماء المهمة تغيب عن ذاكرتهم أحيانا رغم طول العشرة البحثية معها. كما أني استمعت إلى حوار إذاعي مع المفكر الأنثروبولوجي رني جيرار، كان من لطائفه أنه كلما أراد أن يذكر نيتشه قال «دوستويفسكي» عن غير قصد، فيضطر المحاور أن يصوّبه، ولكنه سرعان ما تعاوده زلة اللسان.
(
القدس العربي)