يدفع العقل وقواعد الدبلوماسية للافتراض بأن السياسة العربية التي يرتبط
أمنها المباشر ومصالحها مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة؛ تدفع بثقلها لمنع
جرائم الإبادة عنه في
غزة وفي بقية فلسطين، لأسباب عربية صرفة، تاريخية أخلاقية ووطنية،
ولأنها قضية عادلة فالافتراض المتخيل هي آمال عربية تحافظ على صمود الفلسطيني فوق
أرضه فعلا، لا قولا يقوم بتحويل هذه القواعد إلى جزء من واقعٍ بشعٍ تهجرهُ الكرامة
والعزة والحرية والعدالة، ويقود لاحتضار سياسة عربية تتخيل زوال أعاصير الفاشية
الصهيونية بنسمات عربية هادئة يبتلعها تسونامي الوحشية والجنون الصهيوني.
وفداحة ما يجري في غزة، وما ينتظر مدينة رفح من جرائم إبادة جماعية،
يدفعان للتدقيق المستمر بالأهداف والخطط الإسرائيلية الواضحة كل يوم من أقطاب الائتلاف
الصهيوني الحاكم، ليس لغزة وحدها، بل لكل بقعة جغرافية يتمسك فيها الفلسطيني لتكون
له وطنا على أرضه، في الضفة والقدس وغزة، مع إظهار مخالب الفاشية والعنصرية ضد
الشعب الفلسطيني داخل المناطق المحتلة عام 48، وهو لا علاقة له بيوم "طوفان
الأقصى"، لاكتشاف أن إسرائيل بدأت تجريب قدرتها على القتل والإبادة منذ 75
عاما، والمستمرين بتكثيف الاستيطان وسرقة الأرض وتهويدها منذ مدريد (عملية السلام
1991) وإلى اليوم.
الأمن العربي الذي يفترض أن يكون متنبها لهذه الأهداف والسياسات الإسرائيلية، غير معني للأسف بمواجهتها فعليا لأسباب كثيرة، منها حالة التمزق والتشتت التي تضع أمن الاستبداد العربي كله في سلة الأمن الإسرائيلي
الأمن العربي الذي يفترض أن يكون متنبها لهذه الأهداف والسياسات الإسرائيلية،
غير معني للأسف بمواجهتها فعليا لأسباب كثيرة، منها حالة التمزق والتشتت التي تضع
أمن الاستبداد العربي كله في سلة الأمن الإسرائيلي.
والمثال الذي نورده هنا من مؤتمر ميونخ للأمن في نسخته الأخيرة مناقض تماما
للأسس والقواعد التي تقوم عليه المصلحة العربية المشتركة، إن كانت معنية طبعا
بتحقيق ذلك، خلافا للواقع الذي تعبر عنه تلك المصلحة، والتي أفصح عنها وزير خارجية
مصر في مؤتمر ميونخ للأمن بمداخلته التي تنسف هذه القواعد بالقول:
"يقينا أن حماس كانت خارج الأغلبية المقبولة للشعب الفلسطيني والسلطة
الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل حتى التوصل إلى تسوية، ورفضهم التنازل عن دعم العنف
وممارسته. يجب أن يكون هناك محاسبة، لماذا تم تعزيز قدرة حماس في غزة، وتم تمويلها
في القطاع من أجل إدامة الانقسام بين حماس وبقية الكيانات السياسية لمنع السلام
الموجود".
الوزير الفاشل بالتزوير
بهذا اليقين، هناك أسئلة مشروعة من الشارع الفلسطيني وضحاياه، بماذا تختلف
مصلحة النظام المصري عما قدمه وزير خارجية أمريكا أنتوني بلينكن في مؤتمر ميونيخ؟
وعما طرحه ممثل الاحتلال الإسرائيلي؟ وعما قيل من ممثل دولة عربية الإمارات بعد
عملية طوفان الأقصى ووصفها بالبربرية والوحشية؟
ومن حقنا أن نتخيل ما يقال من ممثلي بعض الأنظمة العربية مع ممثلي الاحتلال
الإسرائيلي والولايات المتحدة داخل الغرف المغلقة، عن حقيقة المواقف والأدوار
والسياسات التي تعني القضية الفلسطينية وشعبها وتعني الأمن العربي، بعد خمسة أشهر
من جرائم الإبادة في غزة. كل الملف الفلسطيني المعني (غزة) في جعبة النظام المصري
محصور لدى المخابرات المصرية وليس فيه أي بعد سياسي منذ سنوات طويلة، ويضغط لتأمين
المصلحة الإسرائيلية بنزع أي بعد سياسي عنه، وبدون مجاملة ومراجعة لمواقف النظام
المصري من حركة حماس بعد الانقلاب في مصر 2013 وشيطنتها وإدانتها وربطها بالإرهاب
على الطريقة الصهيونية، وهو أمر لم يتبدل في الغرف المغلقة.
في معرض كلام الوزير شكري عن الأوضاع الفلسطينية على الأرض؛ أن هناك سلاما
موجودا قد تم تعطيله لعدم اعتراف حماس بإسرائيل، ولممارستها العنف لمنع السلام
الموجود، ولأن هناك من قام على تعزيز قوتها "حماس" وتجب محاسبته، ودون
الخوض في السياسات الصهيونية الاستعمارية على الأرض وكيفية التصدي لها.
بمعنى أن الوزير يُحمل الضحايا الفلسطينيين مسؤولية عدم خضوعهم للمحتل،
والتسليم بالأمر الواقع والقبول بما يطرحه المُستَعمِر على المُستَعمَر، كما هو
حال أنظمة الاستبداد العربي مع الاحتلال بالتحالف والتطبيع معه.
الوزير العربي في مؤتمر ميونيخ، القادم من خلفية سياسية غير منتخبة
ومستبدة، يُصر على يقين فصل حماس عن شعبها، متجاهلا انتخابات العام 2006 النزيهة
والوحيدة التي فازت فيها في غزة والضفة، وباعتراف مراقبين دوليين، وما تبعها إلى اليوم
من حروب وحصار بسبب الانتخابات وبسبب السياسة الاستعمارية الصهيونية.
المُرعب في الأمر، أن أصداء جرس الإنذار العربي والدولي، التي أعلنت عن
مخاطر وتحذيرات العدوان الإسرائيلي والميل إلى الارتداد عن مواجهته، كان لها أثر تراكمي مفجع
بإحصاء مذابح يومية في كل جغرافيا غزة الضئيلة، وقد جرى التعامل معها كبديهيات
ترقى لمستوى الحقيقة المطلقة بنوع اللامبالاة، وبرودٍ يُفسره الوزير شكري في مؤتمر
ميونيخ بأن التنازل عن "العنف" الذي تمارسه حماس والاعتراف بإسرائيل هو
الذي يحقق السلام؛ متناسيا عن قصد تجربة ثلاثة عقود من أوسلو، ويقفز عن سياسات
العدوان الصهيوني على الأرض منذ ما قبل ظهور حماس، في عقود النكبة الفلسطينية
وهزيمة الجيوش العربية.
تفكيك ركائز الصراع
هذا الواقع المر والقاسي لا يواجه بالقلق وبيقين التزوير له خدمة لسيطرة صهيونية استعمارية، ولا بالكلام والخطب السطحية الفارغة من الإنسانية، إنه يحتاج لصلابة عربية في المواقف لأبعد الحدود، وامتلاك الإرادة والقناعة والقدرة على الإمساك بالحقيقة. والمرارة العربية بعدم إدراك مصلحة عربية حقيقية باستخدام العقل والوجدان والضمير، وبالتقدير السيئ للذات العربية وقدراتها، هي التي تجعل من الفاشية والغطرسة الصهيونية تبلغ ذروتها عبر تهديد الوجود الفلسطيني كله
لذلك أي تفسير علمي للإدراك، وفهم سليم للتخلي العربي الرسمي عن مصلحته في إسناد
قضيته المركزية، ومواجهة جريمة الإبادة الصهيونية الآن ضد الشعب الفلسطيني، يقودنا
قسرا إلى حقيقة أخرى لا تقل عنها وضوحا في أذهان ووجدان الشارع العربي، وهي حالة
الانهيار والانكفاء والتمزق الذي يعيشه النظام الرسمي العربي في مرحلته الراهنة،
وتمكن المشروع الاستعماري الصهيوني من إحداث اختراقات عميقة وإستراتيجية طالت
ركائز الصراع العربي معه في العمق، مقابل حالة من الإرباك في التطبيع والعجز
المفلس بالرهان على التزييف الصهيوني للسلام، وهي حالة تدفع للوقوف الإجباري أمام
أسئلة مثارة منذ أكثر من ثلاثة عقود، لإعادة قراءة الأحداث المرتبطة بسلوك
المستعمر الصهيوني على الأرض، إعادة ليست اعتباطية أو مفتعلة، وعدم قراءتها لا يعني
أن الاستيطان والعدوان والقتل والتهويد وتزوير التاريخ والواقع قد انتهى، أو
سينتهي بوقف جولة العدوان الحالي على غزة..
التحريض على ممارسة الفاشية متواصل، مع
ارتكاب بقية جرائم الإبادة وضد الإنسانية، هو الوجه الآخر للحقيقة التي يصعب على
أنظمة الاستبداد العربي مواجهتها، وهناك لاءات صهيونية بعدم الاعتراف بدولة
فلسطينية موضوعة للتصويت، وهناك جملة قوانين لاستكمال تهويد القدس وتكثيف
الاستيطان، وهناك ثوابت أمريكية بدعم العدوان لا وقفه.
واقع مر وقاسٍ
هذا الواقع المر والقاسي لا يواجه بالقلق وبيقين التزوير له خدمة لسيطرة
صهيونية استعمارية، ولا بالكلام والخطب السطحية الفارغة من الإنسانية، إنه يحتاج
لصلابة عربية في المواقف لأبعد الحدود، وامتلاك الإرادة والقناعة والقدرة على الإمساك
بالحقيقة. والمرارة العربية بعدم إدراك مصلحة عربية حقيقية باستخدام العقل
والوجدان والضمير، وبالتقدير السيئ للذات العربية وقدراتها، هي التي تجعل من
الفاشية والغطرسة الصهيونية تبلغ ذروتها عبر تهديد الوجود الفلسطيني كله، تهديد
يفشل معه الأمن العربي في بشاعة التزوير من الوزير لتجميل قبح التخاذل.
twitter.com/nizar_sahli