بينما تتواصل حرب
الإبادة الوحشية على قطاع
غزة، مخلفة أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية
الثانية، لم تتوقف الاتصالات والاجتماعات الإقليمية والدولية لبحث مستقبل غزة، أو
اليوم التالي كما يحلو لهم وصفه، وقد منّوا أنفسهم ومن وراءهم منذ وقت طويل بأنهم
سيتمكنون سريعا من القضاء على المقاومة في غزة، ومن ثم يقررون مستقبلها، وهو ما عجزوا
عن تحقيقه رغم مرور أربعة أشهر ونصف على أطول وأعنف حرب شنها الكيان الصهيوني على
العرب حتى الآن، وها هم لا يزالون رغما عنهم يتفاوضون مع حماس.
ومع ذلك تتسرب
العديد من الأفكار والمشاريع التي تشارك فيها بعض الدول العربية بطلب من الولايات
المتحدة، ومن أبرز الأفكار والخطط التي توصلوا إليها، ما كشفت عنه صحيفة
"نيويورك تايمز" في تقرير لها نشر قبل أيام عن دور لمحمد دحلان، المنشق
على حركة فتح والمستشار لرئيس الإمارات، في خطة سرية ناقشها بعض القادة العرب
تتعلق بالدفع بزعيم جديد لم يكشف عن هويته -وقد يكون دحلان نفسه- يدير قطاع غزة وأجزاء
من الضفة الغربية، بديلا عن محمود عباس الذي سيحتفظ بدور شرفي، وذلك تحت حماية ما
وصف بقوة حفظ سلام عربية.
يريدون فرض زعيم
على الشعب الفلسطيني يأتي محمولا على الدبابات التي ستدفع بها بعض الأنظمة العربية،
وهي مصر والأردن والسعودية والإمارات، بدون أدنى اعتبار لرأي الشعب الفلسطيني الذي
أجهضوا كل تطلعاته في اختيار قادته، بعد رفض الكيان الصهيوني ومن خلفه حلفاؤه في
الغرب والنظام الرسمي العربي؛ الاعتراف بنتائج انتخابات 2006 وما انتهت إليه من
مشروعية ديمقراطية، وأصروا على حصار قطاع غزة طوال 17 عاما، وأجهضوا كل محاولات
توحيد التنظيمات الفلسطينية، وآخرها الاتفاق الذي جرى توقيعه في الجزائر في تشرين
الأول/ أكتوبر 2022 ووافق عليه 14 فصيلا؛ من أبرزها حركة فتح وحركة حماس. ونص الاتفاق
على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وتشكيل حكومة وحدة، وهو الأمر الذي لم يتحقق
منه شيء ليلحق الاتفاق بما سبقته من تفاهمات.
فمن يحاصرون
غزة ويحولون بين الشعب الفلسطيني وبين حقه في تقرير مصيره يفرضون فيتو على أي وحدة
فلسطينية لا تخضع لشروط ما يسمى بالرباعية، وأبرزها الاعتراف بالاحتلال وتسليم
سلاح المقاومة، وهي شروط تعجيزية مجحفة في الوقت الذي هم فيه عاجزون عن ضمان حقوق
الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة في غزة والضفة وفقا لما يسمونه بالشرعية
الدولية وحدود 1967. وحديثهم اليوم عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو للتضليل الإعلامي
والهروب للأمام، وهي الجزرة التي يلهون بها النظام الرسمي العربي بدون أي تعريف
لهذه الدولة، بينما الواقع يكذّب ذلك.
فرض زعامة على
الشعب الفلسطيني لن تكون مقبولة، حتى لو جاء على ظهر دبابة عربية، وكان الأولى بالنظام
العربي الرسمي هو البناء على ما تقدم ومساعدة الشعب الفلسطيني في تحقيق التوافق
الوطني وفقا لما تم التوافق عليه مؤخرا في الجزائر، بدلا من الزج بقوات في مواجهة
الشعب الفلسطيني نيابة عن
الاحتلال.
كل تجاربنا مع
قوات حفظ
السلام العربية كارثية، وفيها سم قاتل لا تخفى على أي متابع سياسي. فقوات
الردع العربية التي تشكلت بقرار من القمة العربية عام 1976 في الرياض، والتي بدأت
عربية بمشاركات ولو رمزية من السعودية والإمارات والسودان واليمن مع أغلبية كبيرة
من القوات السورية، سرعان ما انتهت لقوات سورية فقط بعد انسحاب قوات باقي الدول،
ولم تساهم سوريا إلا في تعميق الحرب الأهلية في لبنان وإطالتها، ولم توفر الحماية
للبنان من العدوان الصهيوني، عندما احتلت إسرائيل شريطا بعرض 10 كيلومترات من الأراضي
اللبنانية في عملية الليطاني عام 1978، وغزو لبنان عام 1982؛ الذي ارتكبت فيه
المذابح ضد المدنيين في مخيمات صبرا وشاتيلا وغيرها، ولم تنته آثار الاحتلال فعليا
إلا عام 2000.
بل إن لبنان، هذا
البلد الصغير الذي لا يملك إلا جيشا صغيرا لا يقارن من أي وجه بالاحتلال الصهيوني،
هو الدولة العربية الوحيدة التي انسحبت منها إسرائيل رغما عنها بدون فرض شروطها في
معاهدة سلام، أو إجبار على الاعتراف بالاحتلال، بعد أن أعلنت في نيسان/ أبريل 2000
من جانب واحد وقبولها بتنفيذ قرار مجلس الأمن 425 الصادر عام 1978، وبناء عليه تم
ترسيم ما يسمى بالخط الأزرق الذي تراقبه حاليا قوات اليونيفيل بقرار من مجلس الأمن.
ولكن لبنان لا يزال
يعتبر أن منطقة مزارع شبعا (25 كيلومترا مربعا) منطقة محتلة يطالب بها، ويجادل
الصهاينة بأنها ليست لبنانية بل سورية، ومع ذلك وافقت الولايات المتحدة الأمريكية
مؤخرا في آب/ أغسطس 2023 على قرار مجلس الأمن رقم 2695 والذي يصف مزارع شبعا بأنها
"منطقة محتلة"، بل وأعلن البيت الأبيض مؤخرا عن استعداده للخوض في ملف
ترسيم الحدود البرية بين لبنان والكيان الصهيوني بعد نجاح وساطتهم في ترسيم الحدود
البحرية بدون اعتراف بالكيان، بما يعني أن هناك استعدادا لتقديم تنازلات تعيد
مزارع شبعا للبنان، في محاولة لسحب أي ذريعة لحزب الله بهدف إخراجه من جبهة
المقاومة. وهو ما يعني أن لبنان نجح فيما فشلت فيه كل من مصر والأردن اللتين أجبرتا
على عقد اتفاقات مذلة والاعتراف والتطبيع في مقابل استعادة منقوصة لأراضيهما.
التحالف العربي
الذي قادته السعودية والإمارات في عملية "عاصفة الحزم"، فدمر اليمن وقسمه
واغتصب موانئه وجُزره ونشر فيه المليشيات المسلحة وفرق الاغتيالات من المرتزقة
الأجانب، فشل في كل شيء سوى الفظائع والمجاعات التي خلفها.
ورأينا التدخلات
العربية في ليبيا التي لم تدعم سوى الحرب الأهلية والانقسام وتعميق الأزمات وتأسيس
المليشيات وانعدام الاستقرار.
جامعة الدول
العربية التي عكست بكل وضوح عجز النظام الرسمي العربي صمتت عن كل الجرائم المرتكبة
في غزة، وعجزت عن فعل شيء حتى إدخال الطحين والغذاء لأهل غزة، هي كيان لا يصلح لأن
يكون ضامنا للسلام والاستقرار وليست أمينة على مستقبل الشعب الفلسطيني، بل يحتاج
الشعب الفلسطيني للدعاء إلى الله لتكف شرورها عنه.
ما تحتاجه غزة
اليوم وغدا هو وجود دول ضامنة تتعهد بتقديم الضمانات لتنفيذ الاتفاقات التي سيتم
التوصل إليها في نهاية المطاف.
الشعب الفلسطيني
في حاجة لمن يساعده لتحقيق إرادته وانتخاب قياداته لتقرير مصيره بدون زعامات
مصنوعة في الخارج أو تحتاج لدبابة أجنبية لحمايتها.
الشعب الفلسطيني
في حاجة لأمة تقف في ظهره وتحميه وتحمي مقدساتها من تغول المتطرفين الصهاينة
المهووسين بالاستيطان وبالأساطير الدينية التي جاءوا لتنفيذها على حساب شعب آخر؛ هو
جدير بالحرية.