أثار قرار رسمي بنقل أراضي مدينة "رأس الحكمة" في الساحل الشمالي الغربي لمصر من حيازة القوات المسلحة
المصرية إلى هيئة مدنية تمهيدا لتنفيذ صفقة بيعها واستثمارها بشراكة مصرية إماراتية، التساؤلات حول موقف
الجيش من بيع الأراضي ذات المواقع الاستراتيجية.
وفي إطار الصفقة التي أعلن عنها رئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي، الجمعة الماضية، نشرت "الجريدة الرسمية" المصرية، قرار رئيس النظام عبد الفتاح
السيسي، تخصيص قطعة أرض من أملاك الدولة بمساحة 170.8 مليون متر مربع ناحية محافظة مطروح، لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، لاستخدامها بإقامة مدينة "رأس الحكمة" الجديدة، "نقلا من الأراضي المملوكة للقوات المسلحة".
ووفق مراقبين، فإن تنازل الجيش عن بعض ممتلكاته أو الأراضي التي جرى منحه إياها أمر نادر الحدوث، ملمحين إلى تعثر صفقات طرح الجيش لبعض شركاته خلال السنوات الأربع الماضية، رغم مطالبات صندوق النقد الدولي بها من بين شروطه لمنح مصر تمويلا اتفقت عليه نهاية 2022، والحديث عن زيادة قيمته مطلع 2024.
المثير هنا، واللافت للنظر، تصريح لرئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، قد يفسر قبول الجيش بالتنازل عن تلك المساحة الكبيرة من الأراضي بالمشروع الذي قد يمتد من مدينة العلمين غرب الإسكندرية إلى مدينة مرسى مطروح غرب رأس الحكمة، بحسب مراقبين.
غورغييفا، وفي معرض حديثها عن احتمالات زيادة تمويل الصندوق لمصر من 3 إلى 12 مليار دولار، قالت إن "استقرار مصر مهم للشرق الأوسط، وأن صفقة رأس الحكمة مع الإمارات علامة إيجابية للغاية".
وهو التصريح الذي فسره البعض، بقولهم إن صفقة الإمارات التي انتُزعت أراضيها من يد الجيش المصري هي محاولة إقليمية وغربية لتثبيت حكم السيسي، ومنع سقوطه في المرحلة العصيبة التي يمر بها الإقليم ويواجهها اقتصاد مصر.
كما أنه من اللافت، وفي سياق تنازل الجيش غير المعهود عن بعض ممتلكاته تنفيذا لرغبة صندوق النقد الدولي، عقد رئيس الوزراء مدبولي، اجتماعا الاثنين الماضي، لبحث العروض المقدمة للاستحواذ على الشركة الوطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترولية (وطنية)، التابعة للجيش، وسط تأكيدات حول الإعلان عن اسم صاحب الصفقة المؤجلة منذ 4 سنوات، قريبا.
"فرط في كل مصر"
وفي قراءته لدلالات تضحية الجيش المصري ببعض ممتلكاته وقبوله بنزع أراضي "رأس الحكمة" من حوزته ومنحها لدولة أجنبية، وما إذا كان مجبرا على هذا الإجراء، قال السياسي المصري الدكتور عمرو عادل: "هناك بعض الجمل التي يجب أن يعاد صياغتها".
رئيس المكتب السياسي للمجلس الثوري المصري المعارض، أشار لنص قرار السيسي، بالجريدة الرسمية وجملة "نقلا من الأراضي المملوكة للقوات المسلحة"، مؤكدا في حديثه لـ"عربي21"، أنه "لا يمكن أن نستمر في الاقتناع أن للمؤسسة العسكرية ملكية أراض".
وأوضح أنها "لا تمتلك شيئا؛ هي فقط لها حق استخدامها (الأراضي) في الدفاع عن مصر، طبقا للقانون والدستور"، مضيفا: "لكن يبدو أن الواقع فرض نفسه بضراوة حتى على عقولنا وألفاظنا وقناعاتنا".
وتابع: "فنحن نقول الجيش يمتلك، والجيش يبيع"، مؤكدا أن "الجيش لم يفرط في ممتلكاته لأنه لا يمتلك شيئا بالأساس هو كمؤسسة أصبحت فوق القانون، والشعب، والدستور، فرطت في كل مصر".
ووافق، عادل في رؤيته، الكاتب الصحفي جمال سلطان، بقوله عبر موقع "إكس": "اسمها أراضي مصر وأملاك الشعب المصري، الجيش مجرد حارس على هذه الأرض، الجيش لم يدفع دولارا واحدا ليتملك هذه الأرض، وأموال هذه الأرض بالكامل يجب أن تذهب للخزانة العامة للدولة وتدخل في ميزانيتها العامة، غير ذلك يكون سرقة ولصوصية وفجورا وجريمة إهدار للمال العام".
"موائد الخيانة"
ويعتقد عادل، ضابط الجيش المصري السابق، أن "رأس الحكمة هي حلقة في مسلسل طويل بدأ من (تيران وصنافير) في أقصى الشرق، وزحف على كل حدود مصر، وسينفذ قريبا إلى قلبها في القاهرة والإسكندرية، وغيرها".
وقال إن "مصر أصبحت الآن معرضا مفتوحا لكل من يمتلك الدولار الأخضر، فصندوق النقد الدولي يدعم لأن النظام المصري يستطيع أن يبيع غزة وأهلها، ومحور الشر الخليجي يدعم لأن النظام يستطيع أن يبيع أمن مصر وكرامتها على موائد الخيانة".
وفي قراءته لدلالات تصريح مديرة صندوق النقد الدولي عن صفقة الإمارات في "رأس الحكمة"، وقولها إنها علامة إيجابية على استقرار مصر، أكد أن "استقرار مصر، في نظر الصندوق، ونظر محور الشر الخليجي، أن تكون ساكنة سكون الموت تحت قبضة العساكر"، مبينا أن "هذه هي مصر التي يريدونها ويدفعون المليارات للحفاظ عليها ساكنة هكذا".
وأكد عادل، مجددا أنه "لا الجيش يملك ولا له حق البيع، هي فقط مجموعات مسلحة استولت على مصر تحت تهديد السلاح، والوصف لما حدث ويحدث هو سطو مسلح على مصر وشعبها".
وحول مقولة البعض أن تلك التمويلات والأموال هي محاولة لتثبيت حكم السيسي يرى السياسي المصري، أن "الأمر ليس كذلك؛ فالحكم للعساكر، وليس السيسي فقط، وهم تحت السيطرة، وفي قمة الفساد، ولا خوف إلا من الشعب الذي يُسحق من الفقر والإذلال والخوف".
وتوقع في نهاية حديثه عدم توقف موجة
التفريط الجارية في الأراضي الاستراتيجية وبينها "رأس جميلة" في شرم الشيخ، وما يثار عن رغبة سعودية في الحصول عليها.
وختم بالقول: "موجة البيع لن تتوقف، وربما تصل لبيع البشر أنفسهم في وقت ما، لأنه مهما تدفقت الأموال لمصر فإن غياب إرادة التطوير والفساد البنيوي سيبتلع أي أموال تدخل خزينة النظام".
"الجيش لا يملك"
من جانبه، وفي قراءته لدلالات قبول الجيش بنزع أراضي رأس الحكمة من بين أملاكه ومنحها لدولة أجنبية، قال رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر"، الباحث مصطفى خضري: "بداية الجيوش ليس لها ممتلكات".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "وإنما تخصص لها الأراضي التي تحقق أهدافها الاستراتيجية والتكتيكية، وتمكنها من تأدية دورها في حماية الدولة".
ولفت إلى أن "الأراضي المخصصة للجيوش تتنوع وفقا للأهداف، فمنها استراتيجي مستديم مثل الأراضي الحدودية، ولها قوانين خاصة بها ويمنع تملكها لأي أجنبي، وأحيانا يمنع تملكها للمواطنين أنفسهم".
"ومن الأراضي ما يُستخدم لأهداف تكتيكية متغيرة أو مؤقتة، كالمناورات، والأراضي التي تساعد في التحركات اللوجيستية، وعلى هذا فمن يحدد احتياجات الجيوش للأراضي المخصصة من عدمها هي منظومة الجيش نفسها".
وحول احتمالات أن يكون الجيش قد أجبر على هذا التنازل عن مساحة كبيرة تتعدى 170 مليون متر مربع، أوضح خضري، أنه لا يعرف يقينا "تفاصيل صفقة رأس الحكمة، وهل هي تنازل، أم بيع، أم مشاركة استثمارية، ولن نستطيع الحكم حتى تتضح الرؤية".
وفي تعليقه على قول غورغييفا، عن صفقة الإمارات في "رأس الحكمة"، إنها علامة إيجابية على استقرار مصر، قال الباحث المصري: "حقيقة، وبغض النظر عن نظرتنا لنظام الجنرال، والخطايا السياسية والاقتصادية التي صنعها فشلا أو عمدا، فإن المشروع، وحجم المبالغ المعلنة؛ يدل على أنها صفقة اقتصادية كبرى".
ويرى أنها "دليل فعلي على الاستقرار، وأقصد هنا استقرار مصر وليس استقرار اقتصادها، فمصر دولة كبرى بها من الموارد ما يجعلها بعيدة عن الإفلاس أو السقوط، لكن اقتصادها غير ذلك".
وأكد أنه "لو لم يتم استخدام الأموال التي دفعت بالصفقة لتنمية الاقتصاد الإنتاجي، ومن ثم تخفيف العبء عن المصريين وتوفير احتياجاتهم في حدود الدخول التي يحصلونها؛ فإن الصفقة ستنتهي لجيوب رأس النظام وأعوانه، كما الصفقات السابقة".
"سباق الدعم بمقابل"
ووافق خضري، الرأي القائل بأن هناك من يقف لدعم النظام ولكن هذه المرة الدعم بمقابل، موضحا أن "النظام الإماراتي تحديدا؛ كان من أكبر داعمي الجنرال، حتى من قبل استيلائه على الحكم".
وأضاف: "وما تمويل حركة (تمرد) ببعيد عن أذهاننا، وقد جنى ثمار هذا الدعم بعد أن منحه الجنرال قبل هذه الصفقة: موانئ مصرية، واستثمارات استراتيجية أخرى، كالمستشفيات وشركات البتروكيماويات، والشركات اللوجستية، والأسمدة... الخ".
وعن توقعاته لاحتمالات توقف موجة التفريط الجارية في الأراضي الاستراتيجية وبينها "رأس جميلة" في شرم الشيخ، يعتقد أنه "بعد الصفقة الإماراتية، ستسعى الدول الخليجية عموما، والنظام السعودي خصوصا، لتنفيذ صفقة أو صفقات مماثلة".
وأكد أن "الجميع يسعى للتأثير على القرار المصري بالأموال، خاصة الرياض التي دخلت مرحلة تكسير عظام مع أبوظبي، وكلاهما يسعى لكسب النظام المصري بصفه".
وعن موقف الجيش مع استمرار تلك الموجة، قال الباحث المصري: "لا أعلم يقينا فالموقف ملتبس، وكم المعلومات عما يجري في الغرف المغلقة شحيح، والتكهن بناء على المعلومات المتاحة؛ لن يعطينا تصورا واضحا وتقديرا سليما للموقف الحالي".
"تمهيد سابق"
ويبدو أن نظام السيسي، أعد مبكرا لموجة التنازلات الجارية عن أراضي مصر للأجانب وبينها الأراضي التي حازها الجيش، حيث أقر البرلمان المصري بيع الأراضي الصحراوية للأجانب والعرب، وذلك في إطار حاجة النظام للحصول على العملات الصعبة لوقف حالة الانهيار الاقتصادي والمالي بالبلاد.
وفي 4 كانون الثاني/ يناير 2024، أقر مجلس النواب، على تعديلات قانون تنظيم ملكية الأراضي الصحراوية، التي تمنح الأجانب حق تملك الأراضي للمشروعات الاستثمارية، وتمنح المستثمرين العرب حق تملك الأراضي مساواة بالمصريين، وذلك برغم وجود أراض صحراوية لها حساسية استراتيجية وسياسية.
حينها اعترض البعض على التعديل القانوني، معربين عن مخاوفهم من خطورة تملك الأجانب والعرب للأراضي الصحراوية كونه خطرا على أمن مصر، خاصة وأن معظم الأراضي الصحراوية والمناطق الاستراتيجية والحساسة وذات الأهمية الاقتصادية، تابعة للجيش.
وكان السيسي، قد أصدر في عام 2014، قانونا يُنظم الأراضي التي يرفع الجيش يده عنها، وفي هذا القانون جاء بند يُتيح للمؤسسات الفرعية التابعة للقوات المسلحة تكوين شركات منفردة أو بالشراكة مع القطاع العام أو الخاص، لتحويل الأراضي العسكرية لأغراض مدنية، تُشارك بها المؤسسة العسكرية بقيمة الأرض فقط في مشاريع استثمارية ربحية لصالح المؤسسة العسكرية.
"80 بالمئة"
ومنذ انقلاب السيسي، (قائد الجيش) منتصف العام 2013، على الرئيس الراحل محمد مرسي، دأب على منح الجيش أراضي زراعية وصحراوية ومنحه المشروعات الكبرى، ما اعتبره البعض محاولة لإرضاء كبار الضباط والحصول على دعم الجيش، على حساب الدولة والشعب المصري.
الأمر الذي جعل الجيش يسيطر على الاقتصاد المصري، بنسب وصلت نحو 60 بالمئة، وذلك وفق تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية في آذار/ مارس 2014، وهو الرقم المرشح للزيادة بشكل كبير خاصة مع ما حصل عليه الجيش من أراض ومشروعات وامتيازات من السيسي، بعد ذلك التاريخ.
ووفق مقال للكاتب أحمد جمال زيادة، في كانون الثاني/ يناير 2023، "أكد أن الجيش بموجب القانون يمتلك أكثر من 80 بالمئة من أراضي الدولة، ويعتمد على المجندين كعمالة أساسية في كل المجالات الربحية التي سيطر عليها؛ مما يزوده بمكاسب يبدو أنها ضخمة".
وتتواصل رقعة أملاك القوات المسلحة المصرية من الأراضي المنزرعة والصحراوية في الاتساع بلا توقف، وذلك عبر التخصيص المتتابع من السيسي لمئات الآلاف من الأفدنة ومساحات شاسعة من الأراضي حول أهم طرق ومحاور البلاد.
ففي كانون الثاني/ يناير 2023، منح السيسي، وبقرار جمهوري رقم (17 لسنة 2023)، نحو 15 ألف كيلومتر للجيش بما يعادل قرابة 1.5 بالمئة من إجمالي مساحة مصر، وذلك بتخصيص الأراضي الصحراوية الواقعة بعمق 2 كيلومتر على جانبي 31 طريقا رئيسيا بشمال وجنوب البلاد، لصالح القوات المسلحة، ما تبعه نزع مليكات لأفراد وشركات.
وفي عام 2016، وفي القرار الجمهوري رقم (233)، قرر السيسي، تخصيص الأراضي الصحراوية بعمق 2 كيلو متر على جانبي 21 طريقا لصالح وزارة الدفاع، فيما نص ذلك القرار على أن تعتبر تلك الأراضي "مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية لا يجوز تملكها".
وفي الأراضي الزراعية التي منحها السيسي للجيش، يظل حاضرا إعلانه عام 2014، عن مشروع زراعة 4.5 ملايين فدان، ثم تقليصه المساحة إلى 1.5 مليون فدان في 8 محافظات بعمل أوكله للجيش في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2015.
وأعلن السيسي، في آذار/ مارس 2021، عن مشروع زراعي كبير أيضا بالتعاون مع الجيش، بمسمى "الدلتا الجديدة" وعلى مساحة مليون فدان، قرب منطقة محور الضبعة الشهير بالساحل الشمالي الغربي لمصر.
وفي 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، خصص السيسي، 3 قطع أراض بمساحة إجمالية نحو 500 ألف فدان مملوكة للدولة ملكية خاصة بمنطقة توشكي، وذلك لصالح جهاز مشروعات الخدمة الوطنية أحد أهم الأذرع الاقتصادية للجيش المصري، لاستخدامها في مشروعات الاستصلاح والاستزراع.
قطعة الأرض الأولى في شرق منطقة الريف المصري، وبمساحة تبلغ حوالي 130 ألف فدان، والثانية بشرق آبار منطقة توشكى وتصل نحو 70 ألف فدان، والثالثة بجنوب منطقة الظاهرة بنحو 269 ألف فدان.
بل إن السيسي، دأب على نقل ملكية وتبعية بعض المنشآت الحيوية لإدارة الجيش مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ففي قرار رقم 57 لسنة 2016، خصص 16 ألفا و645 فدانا من الأراضي الواقعة جنوب طريق القاهرة السويس للجيش، لبناء العاصمة الجديدة.
وفي تموز/ يوليو 2019، نقل السيسي، تبعية ميناء العريش (شمال شرق) بعد تطويره إلى الجيش، مع نزع الأراضي المحيطة به من الأهالي ونقل جميع منشآت الميناء ومرافقه وإعادة تخصيص كافة الأراضي المحيطة بالميناء لصالح الجيش.
وفي كانون الثاني/ يناير 2022، وفي الذكرى الـ11 لثورة يناير 2011، أعلن السيسي، في قرار جمهوري رقم (18 لسنة 2022)، تخصيص 36 جزيرة بنهر النيل، وواحدة بحرية بساحل البحر المتوسط، لصالح القوات المسلحة.