من أهم ما يفتخر به
الغربيون في العقود الأخيرة، مسألة الحريات العامة التي يُفترض أن تكون متاحة بشكل متساو للجميع. وبالإضافة للحريات السياسية التي تفضي لانتخاب الشعوب لحكوماتها، تمثل حرية التعبير ذروة ما يفخر به النظام الغربي. ولكن هذه الحريات كثيرا ما تعرضت لانتكاسات أو خضعت لمساومات، أو صدرت تهديدات بمصادرتها.
ومن الدوائر التي تتجسد فيها هذه الحريات، الحق في الاحتجاج والتظاهر. وبشكل عام، بقي هذا الحق محفوظا، ولكن حدثت حالات انُتزع فيها هذا الحق من الأشخاص. وما تزال الذاكرة تحتفظ بما حدث في العام 1990 عندما قررت الحكومة الفرنسية وقف إصدار صحيفة «العرب»، بسبب دعمها نظام صدام حسين. مع ذلك كانت تلك المصادرة مؤقتة. وثمة لغط كبير حول حدود ذلك الحق، وما إذا كان مطلقا أم يجب تحديده بحدود حقوق الآخرين. وكثيرا ما تمت مقاضاة البعض بسبب تجريحهم الآخرين مثلا، أو انعكاس تصريحاتهم على النسيج الاجتماعي. وهذه أمور مفهومة بمجملها. وإذا قورن الوضع بما يحدث في بلدان العالم العربي، اتضح بعض جوانب المفارقة. فأغلب السجناء السياسيين في ذلك العالم إنما يودعون السجن بسبب مواقفهم السياسية، أو تعبيرهم عن آرائهم التي لا تناسب الطبقة الحاكمة. بل إن مفهوم السجن السياسي له معناه الذي لا ينفصل عن الحريات العامة. فحكومات العالم العربي لا تعترف بوجود «سجناء سياسيين» بل تعتبر من تعتقلهم بسبب آرائهم ومواقفهم «مجرمين»، أي إن ممارسة الحق السياسي يعتبر جرما.
وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، عوضت النقص الإعلامي الناجم عن انحياز الإعلام الغربي بشكل عام لصالح «إسرائيل».
وهناك الآن امتحان صعب لقضايا الحرية في العالم الغربي نفسه. فمن الناحية النظرية فإن القانون يحمي الحقوق كافة، ومنها حق التعبير وحق التجمع والاحتجاج والتظاهر. ولذلك كثيرا ما تكتظ شوارع المدن الغربية بالتظاهرات والاحتجاجات. وفي الأوان الأخير حظيت قضية
فلسطين بنصيب الأسد من تلك الفعاليات. ومن أسباب ذلك توسع دوائر الوعي في المجتمعات الغربية، وتصاعد القمع الإسرائيلي.
هذا التوسع ساهمت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، وعوضت النقص الإعلامي الناجم عن انحياز الإعلام الغربي بشكل عام لصالح «إسرائيل». وكان لهذا الوعي الشعبي آثار كبيرة أقضت مضاجع الصهاينة، ودفعتهم لاتهام قطاعات كبيرة من المجتمعات الغربية بما تسميه «معادة السامية». هناك إذن تفاعل متسلسل يبدأ بحرية التعبير، ويتصل بدور وسائل التواصل الاجتماعي، ويصل إلى حد التعبير عن المواقف بالاحتجاجات والتظاهرات. وقد تجسد بعض نتائج ذلك التوسع في الوعي، في التظاهرات التي شهدتها المدن الغربية في الشهور الأخيرة. فإذا كانت وسائل الإعلام الغربية شبه الرسمية قد تحاشت نقل معاناة الفلسطينيين في
غزة، بسبب القصف الإسرائيلي المروع تحاشيا لإثارة الرأي العام ضد القوات الإسرائيلية، فقد كان للنشطاء في غزة دور أساس في بث مشاهد القصف الإسرائيلي الوحشي، الذي دفع الكثيرين لاستخدام مصطلح «الإبادة» لوصفه. فكان من نتائج ذلك توسع دائرة وعي جماهير العالم بما يجري هناك، واتضحت حقيقة التوحش الصهيوني، ما أحدث ضجة إعلامية واسعة ضد سياسات
الاحتلال. وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك لإحراج الحكومات الغربية التي غضت الطرف طويلا عن ممارسات الاحتلال، فتصاعدت الأصوات في أنحاء العالم لوقف إطلاق النار.
كان المفترض أن ينجم عن ذلك أمور عديدة: أولها: دعوات جادة لوقف إطلاق النار في غزة، ومحاولة فرضه بالوسائل كافة. ثانيها؛ أن تنطلق كذلك التصريحات التي تشجب الاحتلال الإسرائيلي وتكشف حقيقته الإجرامية. ثالثها؛ أن تهرع الدول لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يشجب القتل الجماعي، الذي يمارسه الاحتلال ويفرض وقف إطلاق النار، ويحيل دعاوى الإبادة إلى محكمتي الجنايات الدولية والعدل الدولية. رابعها؛ أن تعلن الدول العربية عن خطة عمل جديدة للدفاع عن أهل فلسطين، ولو استدعى ذلك مواجهة السياسات الأمريكية، أو تجميد العلاقات مع الدول الداعمة لاستمرار العدوان. لكن شيئا من ذلك لم يحدث. بل استعادت دول الغرب الموقف مجددا لتفرض سياساتها. وبدلا من بذل الجهود لوقف العدوان، بدأت باتخاذ إجراءات لمنع التظاهرات والاحتجاجات، التي كان لها دور كبير في إعادة قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي إلى موقع الصدارة والتأثير على الرأي العام الغربي. هنا تتضح سياسات الدول الغربية ومدى التزامها بما تعتبره من مبادئ أساسية لمعنى «الدولة الحديثة» التي «تروج الديمقراطية وتحمي حقوق الإنسان». ومرة أخرى يبدأ اللغط حول المصطلحات التي ارتبطت بما يمكن اعتباره صحوة إنسانية، انطلقت بعد الحرب العالمية الثانية.
في ظل هذا التلكؤ الدولي عن اتخاذ مواقف جادة لحماية الشعب الفلسطيني من العدوان الإسرائيلي المتواصل، تواصلت الجرائم الصهيونية دون توقف. وحدثت الأسبوع الماضي جريمة إسرائيلية أخرى بإطلاق النار بكثافة على جياع غزة الذين هرعوا للحصول على إغاثة غذائية، وحصدت أرواح قرابة 120 شخصا منهم. لم يكن لهؤلاء ذنب إلا أنهم كانوا يبحثون عن الطعام، بعد أن فرض الاحتلال سياسة تجويع الفلسطينيين وحرمانهم من الغذاء والدواء. أمام هذه الجرائم يستمر الصمت المطبق وموت الضمير الإنساني والتداعي الأخلاقي غير المسبوق. إنها جرائم لا يوازيها شيء، تحدث في وضح النهار وتكشف تفصيلاتها وسائل الإعلام، وتبث تفصيلاتها المنظمات الحقوقية الدولية خصوصا المنظمات الإغاثية. إنها واحدة من اللحظات التي تمر بهذا العالم وهو في أسفل درجات التراجع الأخلاقي والقيمي، في ظل هيمنة القوى الكبرى التي تملك السلاح والمال والإعلام. ويغيب عن هؤلاء أن استغاثة طفلة فلسطينية واحدة تبحث عن الطعام، تكفي لهز الضمير العالمي وقلب الطاولة على رؤوس أعداء الإنسانية.
هنا يشار بالبنان إلى الدول التي تستطيع التأثير على الواقع، ولكنها تفضل الصمت على جرائم الاحتلال، وتمعن في دعمه وإمداده بالسلاح والموقف السياسي، وتتخذ الإجراءات كافة لطمس الحقيقة، وتسعى لمنع ارتفاع أصوات المظلومين، سواء عبر وسائل الإعلام الغربية أم بهتاف المحتجين في شوارعها. وفات هؤلاء أن الحقيقة لها فم لا يطيق السكوت.
فهل تستوعب الحكومة البريطانية التي تسعى لمنع التظاهرات الداعمة لفلسطين، معنى فوز جورج غالواي بمقعد برلماني بعد غياب دام اثني عشر عاما، وأن سبب فوزه تصريحاته العلنية بدعم أهل فلسطين وشجب السياسات الإسرائيلية؟ ألا يعني ذلك تغيرا في المزاج الشعبي البريطاني الذي من شأنه أن يؤثر على نتائج الانتخابات العامة في وقت لاحق من هذا العام؟ هذا لا يعني ضمان النتائج، خصوصا مع استمرار تدفق المال النفطي لقطاعات واسعة من داعمي الاحتلال، والقوى التي تعمل لتكريس الواقع الراهن في المنطقة، ولكن من المؤكد أنه سوف يساهم في إعادة شيء من التوازن للسجال السياسي الدولي، الذي هيمنت عليه قوى الظلم الامبريالية ردحا من الزمن. فالمشاهد التي تتزايد حول احتضان قضية فلسطين من قبل قطاعات سياسية ومهنية وفنية عديدة، تشير إلى هذا التحول. فمثلا كان مشهد مغني الراب الأمريكي بنيامين ماكليمور الأسبوع الماضي، وهو يقفز على رؤوس الجمهور الذي كان يستمع لأغنيته في مقاطعة أريزونا الأمريكية، لالتقاط كوفية فلسطينية من أحد المشاركين مثيرا جدا، فقد قام بالتلويح بها وسط تصفيق آلاف الحاضرين. إنه انقلاب حقيقي لدى قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي لصالح القضية الفلسطينية.
لقد كانت التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها المدن الغربية خصوصا لندن في الشهور الأخيرة خارجة عن المألوف؛ نظرا لضخامتها وجرأتها ووضوح رؤيتها، من حيث الدعم المطلق لأهل فلسطين والشجب غير المحدود للاحتلال الإسرائيلي. وقد أثرت هذه التظاهرات على الرأي العام، وبدأت لها ارتدادات على صناديق الاقتراع، بما يهدد مستقبل عدد غير قليل من السياسيين الذين تلكؤوا عن دعم فلسطين، وتماهوا كثيرا مع السياسات الأمريكية الداعمة للاحتلال.
من المؤكد أنه لن يكون هناك انقلاب كامل في المزاج الشعبي العام لصالح فلسطين، ولكن الطرف الآخر من المعادلة (الاحتلال وداعموه) يشعر أن الحقيقة إذا ظهرت، فسوف تسحق دعاواه وتهدد نفوذه، وأن أي مؤشر لهذا التغير من شأنه أن يكون مثل كرة الثلج التي يزداد حجمها كلما تدحرجت. ولذلك، يُتوقع تكثيف الضغوط على منظمي الاحتجاجات، وأغلبهم من الغربيين، لتخفيف اندفاعهم نحو فلسطين وقضيتها، لكي لا يُصاب المشروع الغربي في المنطقة بإخفاقات كبيرة. فهذا المشروع سعى لضمان دعم الأنظمة السياسية في المنطقة، تارة بالمال وأخرى بالتخلي عن فلسطين، وثالثة بالتطبيع مع الاحتلال، ورابعة بقمع الشعوب لكي لا تنخرط في مشروع تحرير فلسطين، وخامسة بالتحالف مع أمريكا وحلفائها لضمان ما يعتبرونه «استقرارا» سياسيا في المنطقة، من خلال إشراك كيان الاحتلال في المعادلات السياسية والعسكرية والأمنية في الشرق الأوسط.
لا شك أن الاحتجاجات العملاقة، في حال استمرارها، ستضغط على الحكومات الغربية وتفرض عليها أن تغير سياساتها التي دعمت الاحتلال عقودا. وربما المشهد الذي فاجأ العالم، قيام الطيار الأمريكي آرون بوشنل بحرق نفسه تعبيرا عن استنكاره العدوان الإسرائيلي على غزة. لقد كان مشهدا مروعا يعبر عن انقلاب في المشهد السياسي، الذي من شأنه أن يفرض نفسه على السياسات الأمريكية مستقبلا، ويكسر جماح اللوبي الصهيوني التقليدي.
المصدر: القدس العربي