"إذا
كان الزمان غير الزمان، فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض
لا تسقط عنه إلى يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم،
تجعل دوام الحال من المحال، ولو دامت للأولين لما دانت للآخرين! وإن الكيل
بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف، هو سبب كل الخلل في
المعايير والموازين وهذا الدمار المبين.
وفي
تاريخ الحروب
والثورات التحريرية العظمى، دروس للمعتبرين، وإن الذكرى قد تنفع حتى البغاة
والعصاة والطغاة، فضلا عن المؤمنين!!
وبمناسبة إحياء
الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة
القرن العشرين دون منازع في الفاتح من تشرين الثاني (نوفمبر
1954)، وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة
والساعة الدولية، عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد، نود أن نذكر
المعتبرين بدروس التاريخ الحي، الذي عشناه في هذه
الثورة لحما ودما وجهادا
و"استشهادا"، لما يزيد عن السبع سنين، مماثلة لما يراه العالم
على المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، في
معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية، والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد
الأمين على المحسنين والمسيئين، والظلمة والمجرمين، وأصحاب الحق المغتصب الذي لا
يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين، وتلك هي سنة الله في الأولين والآخرين.
تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال
العريضة في الوقت ذاته، وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في
معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.
لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف
جيش تحريرها، حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال. وكنت شاهدا على كثير من
مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها
بالإحباطات والتقلبات والخيانات، التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!
ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962، كان
هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830، مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور
احتلال، كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال؛ إذا بقي عزم الرجال كما كان
واقع الحال.
وإدراكا مني بما للثورة الجزائية من أوجه شبه
وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين
الثورتين، وخاصة من جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين
أنفسهم خلفا عن سلف، والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب
العربي الكبير المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ
الإسلامي للأمة، عندما كانت أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي
الخارجي (الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي
الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000 مجاهد سنة 1948، ودخلوا من أرض
الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة، التي لم تتغير في وجدان كل
مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة،
على امتداد سماع الآذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط
والرباط وتطوان، مرورا بقسنطينة ووهران!؟!
وإني لهذا السبب وغيره
أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا
في صحيفة
"عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت
أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام؛ لما بين
الثورتين من تطابق وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى، مقارنة بما نراه
على المباشر في الثورة الفلسطينية العظيمة الثانية، التي اختصرت
أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة
والقدس وجنين.
وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات
ومعارك التحرير، التي يخوضها الأشقاء الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا
لأكثر من سبع سنين دون انقطاع)، في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة،
لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي الاستعماري كله،
ويدعمونه انتقاما من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات
وأحقاد تاريخية دفينة.
كنا
نعتقد، وإن بعض الظن ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة
والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة، قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة
بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان،
التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.
إن الإسلام والاستعمار
ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار
دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان،
والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام
والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام
يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل
يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار
يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه.
وهذا
المكيال العجيب الغريب بين إنسانين، لا يثير القلق فقط حول مصير البشرية في
هذا العالم (وحيد القرن)، وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك
الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة، تتراجع إلى ما
تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة
والإنسانية، التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة
عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري)، وليس الإنسان البشري
المتحضر المتعلم والمتقدم"!!
وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى)
الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين الحالية)، سأسرده ليس من باب
تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه.
انتصار تاريخي.. للعرب دور فيه
يمكن القول، ودون أية مبالغة بأنه لم يتحقق نصر للعرب والمسلمين منذ
النصر التاريخي الباهر، الذي حققه الناصر صلاح الدين كنصر الجزائر في القرن العشرين. فكذلك يمكن القول أيضا؛ إنه لم يجمع أفراد هذه الأمة على عدالة قضية ودعم جهاد ثورة
ونصر شعب شقيق بإخلاص نادر المثال في العطاء والتضحية بالمال والرجال والأقوال
والأفعال، مثلما وقف الأشقاء مع الشعب الجزائري طوال سنوات ثورته المجيدة من
بدايتها إلى نهايتها المشرفة له ولها.
وهو ما نفرد له هذا الفصل إحقاقا للحق وإنصافا للتاريخ، واعترافا
بالجميل لأهل الفضل من الأشقاء على المواقف الصادقة، والتضحيات النادرة التي
نذكرها لهم من باب الوفاء و الامتنان؛ لأن من لم يشكر المستحقين الأوفياء من
البشر، لا يستحق المزيد من رب البشر القائل في محكم تنزيله (وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ) (سورة إبراهيم، الآية 7).
وإذا كان الشعر هو أسمى أنواع التعبير عن المشاعر الصادقة للكائنات
الناطقة، فإننا نبدأ بهذه المقتطفات مما جادت به قرائح الشعراء الأشقاء، الذين
يعبرون عن أسمى معاني الوفاء والانتماء والتبني لجهاد الجزائر ضد العدو الغاصب
للأرض والهوية، فيقول الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى (الملقب بشاعر الثورة
الجزائرية في البلاد المشرقية)، في هذه القصيدة الرائعة التي تعد من بواكير
قصائده عن الثورة الجزائرية قبل أن تقفل عامها الأول، وقد كانت بعنوان "ميلاد
شعب" ألقاها في مهرجان خطابي كبير في دمشق في تموز/يوليو 1955، التي قدم لها
بكلمة يقول فيها بأنها مهداة إلى ثوار الجزائر.. وقود الفجر العربي الجديد، وهي من
105 أبيات، يقول فيها:
في عروقي أنتِ في آهاتنا في كل خاطـــرْ
يا دويَّ الصيحة الحمراء في قلب الجزائر
لا تعاتبني... تمنيت لو أني جــرح ثائــرْ
يرى الشاعر في ثورة الجزائر أمل العرب في أن تحقق لهم وحدتهم وتلغي
الحدود بين أقطارهم:
وليقيموا ما يشاؤون على الرمل الحـدودا
يصل الأجيال يمحو البعد يجتاح السدودا
ثائـر يهوي على أرض البطولات شهيدا
وثبــــة تومئ للأجيـال أنا سنعـــــود
شعلا تهدي، ونبلا جهلت فيه الحـــدود
ويلاحظ هنا أن الشاعر قال؛ إن تاريخ ميلاده (أي ميلاد سليمان العيسى)،
وكل عربي هو تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية، ويقول جزائري أي إنها جزائر كل عربي؛ لأن ثورة الجزائر جاءت بعد ست سنوات من هزيمة العرب في فلسطين سنة 1948، فأعادت
الثقة للشعب العربي. فيسأل يوسف زيغود المسجّى جثمانه بالوادي قائلا:
أتموتُ؟ كل حَنِيَّة بجزائري
ميلاد شعب رائع
ميلادي..
كان سليمان العيسى يتابع أخبار الجزائر بدقة، ويتغنى بجميلات الجزائر
ومنها جميلة بوباشا التي نضم قصيدة فيها سنة 1961 عنوانها (الرسالة السادسة عشرة)،
مقدما لها بـ (إلى بطلة الجزائر الجديدة جميلة بوباشا)، فيقول:
قديسة جديدة في قبضة العذابْ
يزهو بها لواؤكِ المركوز في السحابْ
قديسة جديدة... للسجن للعذابْ
تُطعم نارَ الساحةِ الحياةَ والشبابْ
ناديتِ يا أرض الفداءْ.. فالدم الجوابْ
ويقذف ليَ الأثيرُ بقيةَ الخبرْ
للنار (بوباشا) جزاء صمت للشررْ
للمسات السلك.. حتى يشهَق الحجرْ
للموت.. أن ظلت تَحدَّى الموتَ والقدرْ
يا للصمود.. فوق ما تعوّد الظفَرْ
وعن جميلة بوحيرد في السجن يقول سليمان العيسى:
وتقف الجزائر
كالمارد المنسوجِ من عزمٍ، ومن صمودْ
لتلوي القدرْ
لتكتب الظّفرْ
لكي تردَّ للصباحِ نجمة الخلودْ...
يـا قصَّةً يلفّها التاريخ والنضالْ
برهبةِ الجَلالْ...
فيصمُتُ الخيالْ....
وتمّحى الألحانُ والخواطرْ
وتقفُ الجَزائرُ
كقلعةٍ شَماءَ، تستعصِي على الرياحْ
تُهدي الظّلام ـ حيث كَان ـ
نجمة الصباحْ
وعن المواقف التي تذكر لهذا الشاعر، أنه عندما زار الروائي والشاعر
الجزائري مالك حداد سوريا في شهري أيار/مايو، حزيران/ يونيو سنة 1961، وتنقل بين
مدنها، وهزت المحاضرة التي ألقاها في (النادي العربي) بدمشق الكتاب السوريون عندما
أعلن بصدق وشفافية؛ "إن مجرد وقوفي اليوم بينكم لأتحدث إليكم بالفرنسية، وأنا
العاجز عن التعبير عن أفكاري باللغة العربية، يكفي برهانا، لتعلموا إلى أي مدى كنا
نحن الجزائريون ضحايا أبشع وأرهب محاولة من محاولات إفقاد الشخصية في تاريخ
البشرية. ومما لا شك فيه، أن من أهم أهداف ثورتنا أن نعيد الكرامة للغة العربية؛ لأن
ذلك يمثل السيادة الوطنية، إن ما يفصلني عن الجزائر، ليست الجبال ولا البحار بل هي
اللغة الفرنسية، وكما أن بعض فناني السينما الصامتة قد اختفوا عن المسرح وتركوا
مكانهم لفناني السينما الناطقة، فكذلك سيكون الحال بالنسبة للكتاب الجزائريين،
أبناء جيلي الذين يكتبون بالفرنسية".
وفي هذا الجو المفعم بالمشاعر القومية الجياشة والصادقة، يقرر سليمان
العيسى نظم قصيدة عن مالك حداد بالمناسبة فيفتتحها قائلا:
سأكتب عنك يامالك
سأعجن بالحروف الخضر كل عطاش آمالكْ
سأكتب عنك أنشودة
ترن بأحرف القرآن بالأوراس مشدودة
بلى يا شاعري
سأخط عنك غناءك الصامت
بحرف من شواظ النار بالعربية الحرة
ليصدح لحنك الخافت
لتعرف أننا أسرة
لتعلم أن أرضك يا أخي أرضي
ونبضك لم يكن يوما سوى نبضي
وهذا النبض القومي الصادق، هو الذي نقرؤه بقلم الدكتور أحمد زكي رئيس
تحرير مجلة العربي في حديث الشهر، بعد الإعلان عن توقف الحرب بين الجزائر وفرنسا
في شهر آذار/مارس 1962 فيقول: «أريد أن أكتب عن الجزائر، فماذا آخذ من القول وماذا أدع؟
أأشيد بوقف إطلاق النار الذي وقع منذ أسابيع؟ فقد أشاد به مئات
الكتاب، وفرح به الملايين من العرب فرحا، قل أن فرحوا فرحا مثله في هذه العقود
القريبة في الزمان.
أم أمجد البطولة العربية، بل البطولة الإنسانية التي كانت، في سبيل
المجد الصّراح الذي ملأ العين فلم تأخذ أحدا فيه ريبة؟ فلقد مجّدها الكثير العديد
من الأقلام، ودوّى بها الكثير العديد من الخطباء".
إلى غير ذلك من الأحداث التي شغلت الشعراء والكتاب العرب، ومن هؤلاء
الشعراء الذين أشادوا بهذه الثورة التي اعتبروها ثورتهم الشاعر أحمد السقاف الذي
يقول:
طلَع الفجْــرُ على رَغــم عِدانـا وانجَلى اللَّيلُ وولّى عن حِـمـانا
ومَسَحنا دمعــــةً قــد طَفَـرتْ مِن مَآقٍ يَبسـت مِنهــا زمَانا
وعن مساعدة الأشقاء في تونس، يقول المجاهد الرائد عثمان سعدي في
مذكراته: "وبإمكاننا القول؛ إن عددا لا بأس به من الثوار التونسيين التحقوا
بصفوف جيش التحرير الوطني إلى جانب إخوانهم المجاهدين الجزائريين، مما يدل على أن
كفاح الشعبين التونسي والجزائري كان كفاحا واحدا، وفي خضم المعركة، استشهد عدد من
المجاهدين التونسيين في الجزائر. ومن بقي على قيد الحياة، استمر في الكفاح إلى
جانبنا إلى أن طلبت منهم الحكومة التونسية العودة إلى بلادهم، وفي هذه المرحلة لم
تكن تونس قد حصلت على استقلالها، فالجيش الفرنسي ظل موجودا على أراضيها."
إلى أن يقول: "طلبت من بشير شيحاني تعييني في الأفواج التي تعمل
خارج الناحية التي أنتمي إليها، فعينني في فوج جيلاني السوفي فاتصل قائدنا الطيب
لاندوشين بجيلاني (رحمه الله)، الذي أمر أن أرسل إلى طالب بشير بمدينة المتلوى،
فأقمت في بيته مع والدته وأخته، آكل وأنام وأعالج من جرحي، وقد كان يعالجني عامل بمنجم المتلوى، اسمه (علي
منّي)، بقيت هناك حوالي خمسة عشر يوما عند طالب بشير، وبلغت وشاية بي للسلطة
الفرنسية بتونس، فداهم البيت الدرك الفرنسي، ونبهتني أم طالب في الوقت المناسب،
عندما كان يدق باب المنزل، أحضرت لي مائدة، صعدت عليها، وتسلقت جدار المنزل، وقفزت
إلى المنزل المجاور له، ووقعت لدى قفزي على زوجة صاحب الدار وكانت تغسل الثياب، فانغرز رأسها ووجهها في إناء غسيل الملابس فصاحت عجوز، كانت واقفة تدير في يدها
مغزل صوف:
ـ من أنت؟ بسم الله الرحيم الرحيم، هل أنت إنس أم جن؟
ـ أنا أخوكما، اسكتا ولا تصرخا وسأحكي لكما قصتي.
إن عددا لا بأس به من الثوار التونسيين، التحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني إلى جانب إخوانهم المجاهدين الجزائريين، مما يدل على أن كفاح الشعبين التونسي والجزائري كان كفاحا واحدا.
دخل الدرك منزل طالب، ارتفع صوت أم طالب وأخته:
"درك.. درك" فتصرفت صاحبة المغزل بسرعة وذكاء غريبين. كانت زربية مطوية
واقفة في الزاوية، فقامت على الفور برميها أرضا، وفتحتها وأمرتني بالتمدد في
طرفها، وقامت هي وزوجة ابنها بطي الزربية طيا محكما، ثم ربطتها بحبل، وأوقفتها في
مكانها.
وبعد أن انتهى الدرك من تفتيش منزل طالب، انتقل إلى منزل الجار،
ففتشه دون أن ينتبه للزربية المطوية... وعندما غادر الدركيون، أخرجتني السيدتان من
الزربية. وعاد صاحب الدار الجار ليجدني مع زوجته وأمه فذهل، حكت له قصتي، فغضب –لا
من وجودي- وإنما على جاره طالب، وهو يقول:
طالب عنده مجاهد ويخفي ذلك عني، هل يتصور أنني أبيع المجاهدين، أنا
وطني ومخلص للثورة الجزائرية أكثر منه.
أرسل الجيلاني السوفي رسالة إلى طبيب إيطالي بمستشفى مدينة توزر،
وكانت الرسالة مغلقة، رافقتني العجوز والدة طالب بشير في الحافلة، وأوصلتني إلى
توزر، أدخلتني منزل مواطن تونسي، فرحبت بي زوجة الرجل، وعندما حضر استنكر ذلك
قائلا:
ـ أنا بعيد عن هذه المشاكل، لا أريد أن
أسبب لنفسي أخطارا.
وبينما نحن هكذا، وإذا بابنته تدخل ولما فهمت قصتي قالت لوالدها:
ـ ما هكذا يستقبل المجاهدون يا أبي،
قولوا أمام الناس إنه أخي يدرس بتونس، وحضر في إجازة.
ثم التفتت إلي وهي تقول:
ـ قف، أنت منذ الآن شقيقي.
قادتني إلى خياط تونسي، اشترت لي حذاء (بليغة) وسروالا وقميصا،
وعباءة تونسية، وبشكيرا يوضع على الرأس، المهم، فقد كستني بلباس المدينة، وكان
أبوها غير راض على ما تفعل. اتجهت معي إلى ممرضة تونسية تعمل بالمستشفى، وهي تقول:
ـ أنا أعرف ممرضة أوصلك إليها، وأنت تصرف
كما تريد.
طبيب إيطالي يعالجني:
وكانت معركة قد جرت بين جنود قافلة سلاح آتية من ليبيا، وبين الجيش
الفرنسي، الذي كانت وحداته ووحدات الدرك الفرنسي تفرض حصارا على كل مكان، وكان
مدخل المستشفى يمر إجباريا من خلال جسر صغير، عليه جنود فرنسيون نصبوا بقربه نقطة
تفتيش للجيش الفرنسي فقالت لي:
ـ لا تتكلم... ولا تعرج.
وكنت أجد صعوبة كبيرة في ألا أعرج، كنت مرتكزا على ذراعها، تمالكت
نفسي، وخففت العرج إلى أن تجاوزنا نقطة التفتيش، وكانت ابتسامة هذه الفتاة
التونسية الجميلة سببا في عدم تفتيشنا.
ودخلنا المستشفى، وأوصلتني للممرضة، وبينما نحن كذلك، وإذا هي تصيح:
ـ ها هو الطبيب المطلوب قادم.
حضر الطبيب، وكان يستعد لمغادرة المستشفى، فقد أنهى عمله، سلمت له
الرسالة، ففتحها وقرأها، وأغلقها بسرعة، وقادني على عجل إلى قاعة العلاج، وكان
يتكلم العربية بطلاقة، فأخرج الممرضة وسألني:
ـ من أنت؟
ـ أنا جندي مجروح.
وكان الجيلاني قد قال لي:
ـ إنها مغامرة، نرسلك له، نجربه بك لنرى مدى استعداده للتعامل معنا،
فإن عالجك فتحنا معه هذا التعامل، وإن سلمك للسلطات الفرنسية قتلناه.
وقبلت بهذا العرض من جيلاني لأنه ليس لي خيار آخر، كنت بين خيارين لا
ثالث لهما، إما أن أعالج بلا طبيب فتهدد رجلي بالخطر؛ أو أقبل المخاطرة فأعالج، ولكن قد أسلم للعدو!
عالج الطبيب الإيطالي الجرح وأعطاني إبرة، ثم قال:
ـ أنا غير مطمئن إلى علاجك هذا، أخشى
معرفة السلطات!
فقالت له الفتاة المرافقة لي:
ـ إذن لتعالجه الممرضة في منزلي.
فوافق على ذلك، وكتب العلاج اللازم للممرضة، ثم قال لي:
ـ ارجع لي بعد أسبوع لأرى جرحك، وأركبني
مع الفتاة في سيارته، وأخرجنا من المستشفى عبر نقطة التفتيش العسكرية.
أقمت لدى هذه الأسرة التونسية، تلك الفتاة الرائعة عاملتني كأخيها لا
قولا وإنما عملا وفعلا، وأذكر أنها كانت كلما خدمتني رددت قولها:
ـ أنا سعيدة لأن الله أرسل لي شقيقا
مجاهدا أخدمه، وكنت أشعر إزاءها ما أشعر به إزاء شقيقتي ربعية!
بقيت هكذا أسبوعين كاملين، ترددت فيهما على الطبيب مرتين، وكانت
الممرضة تأتيني كل يوم تضرب لي إبرا، وتغير ضماد جرحي، وفي نهاية الأسبوعين أكد لي
الطبيب شفائي، وأذن لي بالعودة إلى قبيلة الهمامة الكريمة.
وهي قبيلة مشهورة بالجنوب التونسي بالشجاعة والكرم، استطاعوا تأمين
الطعام لنا بالرغم من فقرهم، وعلي الهمامي هذا الذي يعتبر من أعيانها البارزين هو
مجاهد تونسي، حارب في صفوف جيش التحرير التونسي، ثم انضم إلينا عندما وقف القتال
بتونس.
وأشهد هنا أنه قد جاهد معي الكثير من المجاهدين التونسيين، أذكر
منهم: عبد الله البوعمراني والطاهر الأسود (أخو الساسي الأسود)، وقد علمت أنه لا يزال على قيد الحياة، وأتمنى لو تقوم منظمة
المجاهدين بدعوته لزيارة الجزائر وتكريمه!".