ما زالت نتائج
الانتخابات المحلية التركية تطرح أسئلة تبحث لها عن
إجابات، ولا سيما فيما يتعلق بتبعاتها السياسية، ولعل الأهم والأكثر جذباً
للاهتمام منها ما يرتبط بمستقبل الحكم في البلاد. ومن أهم ما يثير الاهتمام البحثي
فرص رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو في الترشح للانتخابات الرئاسية
المقبلة والفوز بها.
كمنطلق، أتت الانتخابات المحلية الأخيرة بعد عشرة أشهر فقط من
انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة ومصيرية جدد فيها الناخبون لأردوغان عهدته
الرئاسية وأغلبية البرلمان لتحالف الجمهور الحاكم. هذا، مع معطيات إضافية، دعّم
فرضية "التصويت الاحتجاجي" او "التصويت العقابي" في الاستحقاق
الأخير أكثر مما أوحى بتغيير جذري في توجهات التصويت فضلاً عن تغيرات فكرية
وأيديولوجية عميقة ومؤثرة في الشارع التركي.
ثمة دافعان رئيسان لطرح هذا السؤال اليوم، أولهما طموح الرجل
السياسي، وثانيهما فوزه المكرر ببلدية إسطنبول الكبرى. طموح إمام أوغلو برئاسة
البلاد ليس بخافٍ، ويكاد يكون هناك إجماع بأنه لا ينظر لبلدية إسطنبول إلا كمحطة
تنقله للرئاسة، تماماً كما كانت مع أردوغان سابقاً. لازمه هذا الطموح قبل
الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وصدرت منه إشارات على رغبته أن يكون المرشح التوافقي
للمعارضة "القادر على الفوز" على الرئيس أردوغان، لكنه اصطدم بفيتو من
رئيس حزبه ـ آنذاك ـ كمال كليجدارأوغلو الذي فرض نفسه هو مرشحاً توافقياً للمعارضة.
كلفت خسارة الانتخابات كليجدارأوغلو رئاسة حزبه الشعب الجمهوري أكبر
أحزاب المعارضة في البلاد، إذ واجهه تيار يطالب بالتغيير والتجديد بقيادة إمام
أوغلو نفسه، قبل أن يتراجع الأخير لصالح حليفه أوزغور أوزال الذي أصبح رئيس الحزب.
كثير من التحليلات يرى بأن أوزال مجرد رئيس انتقالي سيترك لاحقاً رئاسة الحزب
لإمام أوغلو، ليستطيع الأخير الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة (إذ يملك رئيس
الحزب صلاحيات شبه مطلقة في هذا الإطار)، والبعض يرى أن ثمة اتفاقاً ضمنياً بين
الرجلين يقضي بترشيح إمام أوغلو لرئاسة البلاد في حال فاز أوزال برئاسة الحزب وهو
ما حصل.
وأما فوز إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، الأهم والأكبر
وذات الرمزية الأعلى في البلاد، فأتى بعد حملة انتخابية مركّزة للعدالة والتنمية
قادها أردوغان نفسه لاستعادتها، وهو فوز مضاعف إذ أتى بفارق مريح عن منافسه مراد
كوروم. أعاد هذا الفوز تنشيط شعار "من يكسب إسطنبول يكسب
تركيا، ومن يخسرها
يخسر تركيا"، بيد أن هذا الشعار ليس دقيقاً ولا يؤخذ على إطلاقه. راج هذا
الشعار في عهد أردوغان الذي انتقل من رئاسة البلدية لرئاسة الوزراء ثم رئاسة
البلاد، ثم طمحت المعارضة في رئاسة البلاد في 2023 بعد فوزها بالبلدية (ومعها بلدية
أنقرة الكبرى) في 2019، إلا أن ذلك لم يحصل. وعليه، يكون أردوغان الذي ثبّت الشعار
هو من أبطله لاحقاً، ما يبقي الكلام في إطار التحفيز لا على صعيد المعادلات
السياسية الحتمية.
الآن، وبين يدي السؤال، يبدو من المفيد التذكير ببعض الحقائق
المرتبطة بالمشهد السياسي التركي الداخلي. أولاها أن الاستقطاب السياسي العميق في
البلاد أضر بالعدالة والتنمية، ذلك أنه يتراجع في المنافسات الانتخابية رغم أنه ما
زال في صدارة المشهد السياسي في البلاد كحزب وشخص (أردوغان)، والسبب هو تكتل أصوات
المعارضة في مواجهته، إن كان بشكل رسمي كما حصل في الانتخابات الرئاسية 2023 أو
على صعيد توجهات الناخبين في الانتخابات المحلية الأخيرة.
والحقيقة الثانية أن حزب العدالة والتنمية يحكم البلاد منفرداً، وفي
مواجهة معارضة مشتتة وضعيفة، منذ أكثر من 21 عاماً، وبات يعاني في السنوات الأخيرة
من مشاكل الأحزاب التي تحكم طويلاً من ترهل وضعف الأداء وتراجع الإنجاز
والمحسوبيات وشُبَهات الفساد، إضافة إلى أنه يواجه صعوبة متزايدة في إقناع الأجيال
الجديدة من الشباب الراغب في التجديد. ولذلك ثمة منحى مستمر في التراجع للحزب في
العقد الأخير، ولذلك أيضاً فاز أردوغان بفارق ضئيل نسبياً وفي جولة إعادة أمام
منافس ضعيف عُدَّ من قبل الكثيرين اختياراً خاطئاً لخوض الرئاسيات.
فهل يعني ذلك أن أردوغان والعدالة والتنمية سيستمران في التراجع في
المستقبل ما يضمن لإمام أوغلو الرئاسة في 2028؟ بمعنى، إذا كان كليجدارأوغلو
"المرشح الخطأ" الذي لم يحظ بدعم بعض أطياف المعارضة خسر بفارق غير كبير
أمام أردوغان، ألا يمكن الجزم بفوز إمام أوغلو الذي سيحظى على الأغلب بدعم معظم
أطياف المعارضة، لا سيما مع فوزه المتجدد بإسطنبول وأنه لن يواجه أردوغان في
الانتخابات المقبلة على الأغلب؟
لا شك أن طموح الرجل قائم، بل وتعزز كثيراً بعد نتائج الانتخابات
الأخيرة، التي قال عنها رئيس حزبه أوزال إنها تشير إلى رغبة الشعب في طريقة حكم
وإدارة مختلفة. ولا شك أنه سيكون في مقدمة المرشحين المحتملين للرئاسة في
الانتخابات المقبلة إذا لم يختلف مع أوزال (وهو احتمال يبقى قائماً في السياسة
التركية شديد التقلب)، لا سيما وهو يحمل رمزية "الشخص الذي هزم العدالة
والتنمية مرتين"، والتصويت الأخير له دليل على ذلك.
من المهم في هذا السياق التذكير بأن نتائج الانتخابات المحلية
الأخيرة لا تقول إن الناخبين قد انفضوا عن أردوغان وحزبه بالضرورة، فالأمر أقرب
لرسالة احتجاج ومطالب بالتغيير، ما يعني أن الكرة في ملعب الرئيس والحزب الحاكم في
كيفية التعاطي مع رسائل الصندوق والتجاوب معها واستعادة ثقة الناخبين وهدم
"الجدران" التي ارتفعت بين الحزب وأنصاره على حد تعبير أردوغان.
إذا كان الرئيس الأسبق سليمان دميريل قال يوماً إن "24 ساعة مدة طويلة في السياسة التركية"، فإن السنوات الأربع القادمة مدة طويلة جداً جداً تحول دون إمكانية توقع المشهد السياسي في البلاد وقت الانتخابات المقبلة، فضلاً عن الجزم بمن سيفوز بها.
من جهة ثانية، صحيح أنها العهدة الأخيرة دستورياً لأردوغان، لكن ذلك
ليس أمراً حتمياً ومقطوعاً به، ذلك أنه في حالة تقرير البرلمان انتخابات مبكرة
سيكون من حق الرئيس وفق الدستور الترشح مرة جديد، وهو ما أشار له القيادي في الحزب
بكير بوزداغ. وهذا يعني أن العدالة والتنمية سيكون أمام معضلة، فترشح أردوغان
مجدداً سيكون مخاطرة كبيرة قد ينتج عنها تصويت عقابي أشد وطأة من الحالي، بينما
سيكون سؤال الخليفة أو المرشح – في حال غياب أردوغان – التحدي الأكبر الذي يواجهه
الحزب منذ تأسيسه ربما. هناك شخصيات قيادية في الحزب ولا شك، لكن لا يبدو أن أياً
منها يحظى بالإجماع بما يؤهله للحفاظ على الحزب موحداً وقوياً فضلاً عن الفوز
بالرئاسة. فما بالنا وسؤال ما بعد أردوغان ليس مطروحاً على طاولة الحزب أصلاً حتى
لحظة كتابة هذه السطور، وربما لا يطرح لمدة غير بسيطة مستقبلاً؟!.
من جهة ثالثة، ثمة عوامل عديدة مؤثرة في نتائج الانتخابات من الصعب
الجزم بأمرها منذ الآن، وفي مقدمتها الظروف السياسية والاقتصادية التي ستجرى
الانتخابات في ظلها، ومدى نجاح أردوغان والعدالة والتنمية في معالجة المشاكل
الاقتصادية الحالية، وكيفية تجاوب الأخير مع رسائل التصويت الاحتجاجي، ومدى نجاح
إمام أوغلو في رئاسة بلدية إسطنبول، وأسماء المرشحين للرئاسة، ومنظومة التحالفات
بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، وحجم وحضور الأحزاب المختلفة في
توقيت الانتخابات ..الخ.
وإذا كان الرئيس الأسبق سليمان دميريل قال يوماً إن "24 ساعة
مدة طويلة في السياسة التركية"، فإن السنوات الأربع القادمة مدة طويلة جداً
جداً تحول دون إمكانية توقع المشهد السياسي في البلاد وقت الانتخابات المقبلة،
فضلاً عن الجزم بمن سيفوز بها.
وعليه، ختاماً، يبدو سؤال فرص إمام أوغلو في الانتخابات الرئاسية
المقبلة سابقاً جداً لأوانه، رغم التأكيد على طموح الرجل وتعاظم فرصه عن السابق،
لا سيما في ظل حالة التراجع التي يعاني منها العدالة والتنمية. ولذلك سيكون مفتاح
الإجابة على هذا السؤال بيد أردوغان والعدالة والتنمية قبل أي طرف آخر بمن فيهم
إمام أوغلو نفسه. ذلك أن تفاعله مع نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة سيحدد الكثير
مما سيترتب عليها، حيث سيحكم أنصاره وعموم الشارع في تركيا ما إذا كان تفاعله معها
حقيقياً وعميقاً ومؤثراً أم شكلياً وغير مؤثر، الأمر الذي سيحدد إذا كان التصويت
العقابي في
البلديات الأخيرَ من نوعه أم سيتبعه ما هو أقسى منه في الرئاسيات
والبرلمان.