نشرت مجلة "
فورين بوليسي" الأمريكية تقريرًا تطرقت فيه إلى سبب
استمرار
الدول العربية في الحفاظ على علاقاتها مع دولة
الاحتلال الإسرائيلي والتطبيع معها رغم
الغضب العارم الذي ينتاب الشعوب العربية من الاحتلال.
وقالت المجلة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه بالنسبة
للكثيرين كانت الأخبار التي تفيد بأن الطيارين الأردنيين دافعوا عن الاحتلال الإسرائيلي
خلال الهجوم الذي شنته إيران في نهاية الأسبوع الماضي بمثابة مفاجأة. ففي حين يربط
الاحتلال والأردن علاقات دبلوماسية منذ 30 سنة، فإن السلام بينهما كان باردًا حتى
في أفضل الأوقات. ومنذ اندلاع الحرب في غزة دخل في حالة من الجمود العميق.
مع ذلك، لم يكن الأردن الدولة العربية الوحيدة التي ساهمت في الدفاع عن الاحتلال
في تلك الليلة، فوفقا للمجلة، أسقطت القوات الجوية الملكية السعودية مقذوفات إيرانية كانت
تحلق في مجالها الجوي، وحسب ما ورد قدمت السعودية والإمارات معلومات استخباراتية
مهمة قبل الهجوم.
وأوضحت المجلة أن هناك عددًا من الأسباب التي دفعت القوى العربية إلى
اختيار لعب دور في تلك الليلة، أولها أنه لو انتهت العملية الإيرانية بخسائر كبيرة
في الأرواح أو الدمار، لكان الاحتلال قد رد بقوة، مما يزيد من خطر نشوب حرب
إقليمية.
وفي الواقع، يبدو أن انتقام الاحتلال الواضح في وقت مبكر من يوم الجمعة
ضد إيران كان محدودًا. والسبب الآخر أن قلق العديد من الدول العربية بشأن التدخل
الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن لا يقل عن قلق الاحتلال نفسِه.
ولكن الأمر الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو أن الاحتلال شريك اقتصادي رئيسي
بالنسبة لبعض القوى العربية، وهذا يقدم تفسيرًا واضحًا لعدم اتخاذ الأردن
والسعودية والإمارات أي خطوات ملموسة تقريبًا ضد الاحتلال بعد مرور ستة أشهر على
الحرب في غزة. وعندما فعلت تركيا شيئاً أخيرًا، بإعلانها في التاسع من نيسان/إبريل
أنها ستحظر مجموعة واسعة من الصادرات إلى الاحتلال الإسرائيلي، لم تحذُ أي دولة
عربية حِذوها.
وأشارت المجلة إلى أن الأردن يُعد الأكثر اعتمادًا على دولة الاحتلال بين
هذه البلدان، ليس في الأمور العادية مثل التجارة عبر الحدود أو الاستثمار، وإنما
في الحصول على المياه والطاقة الأساسيتين.
ويعد الأردن من أكثر دول العالم التي
تعاني من ندرة المياه حيث يتوفر فقط 950 مليون متر مكعب سنويا لتلبية الطلب البالغ
حوالي 1.4 مليار متر مكعب. وبموجب اتفاقية السلام الموقعة سنة 1994، يحق للأردن
شراء 50 مليون متر مكعب من المياه سنويًا من الاحتلال الإسرائيلي.
وقد تضاعف هذا
العدد منذ ذلك الحين مع نمو عدد سكان الأردن. في المقابل، قام الاحتلال بتطوير قدر
كبير من القدرة على تحلية المياه بحيث أصبح لديها مخزون من المياه العذبة، ومن
المرجح أن يتزايد الاعتماد على المياه: إذا تمت صفقة مبادلة المزيد من المياه
الإسرائيلية بالطاقة الشمسية من الأردن، فسوف تبدأ عمان استيراد 200 مليون متر
مكعب إضافية.
يفتقر الأردن أيضًا إلى موارد الطاقة المحلية ويعتمد على واردات الغاز
الطبيعي من الاحتلال الإسرائيلي للطاقة الكهربائية وصناعتها الكيميائية. ويشكل
الغاز أكثر من 70 بالمائة من إنتاج الكهرباء في الأردن، وكل ذلك تقريباً يأتي من
حقل ليفياثان الإسرائيلي.
كما تحتاج مصر أيضًا إلى الغاز الإسرائيلي لأن
الاحتياطيات المحلية تُستنزف بشكل أسرع من العثور على مصادر جديدة. وعندما خفض
الاحتلال الصادرات لفترة وجيزة بعد اندلاع الحرب في غزة، اضطرت مصر إلى مضاعفة
فترات انقطاع التيار الكهربائي إلى ساعتين يوميًا واستيراد الغاز الطبيعي المسال.
إن طلب مصر على الغاز الإسرائيلي يتجاوز الاحتياجات المحلية، ومع قلة
الإمدادات لديها، لم تعد قادرة على تصدير الغاز الخاص بها كغاز طبيعي مسال إلى
أوروبا، وبدلاً من ذلك تقوم بإعادة تصدير الغاز الإسرائيلي، وهذا لم يكسب مصر
العملة الصعبة التي كانت في أمس الحاجة إليها فحسب، بل يضمن دورها كمركز غاز ناشئ
في شرق البحر الأبيض المتوسط يضم إسرائيل ومن المرجح أن يشمل قبرص في يوم من
الأيام.
وأضافت المجلة أن المصالح الاقتصادية للإمارات في علاقاتها مع الاحتلال
تدور حول شيء مختلف تمامًا: التجارة والاستثمار، وتعزيز دور الإمارات كمركز لوجستي
عالمي، والاستفادة من براعة إسرائيل في مجال التكنولوجيا المتقدمة لبناء صناعة
التكنولوجيا الخاصة بها، والشراكة لحل تهديد تغير المناخ في المنطقة. فمنذ
اتفاقيات إبراهيم 2020، برزت الإمارات أيضًا كمشتري رئيسي للأسلحة الإسرائيلية،
وارتفعت صادرات الأسلحة الإسرائيلية إلى الدول التي وقّعت على اتفاقيات إبراهيم من
لا شيء في تلك السنة إلى 2.9 مليار دولار في سنة 2022.
من حيث القيمة الدولارية، تظل العلاقة الاقتصادية بين إسرائيل والإمارات
صغيرة نسبيًا لكلا البلدين، لكنها تمثل شيئًا أكبر وأكثر طموحًا، وهو الجهد لإعادة
تشكيل الشرق الأوسط من منطقة الحرب والسياسات المتطرفة إلى منطقة تركز على التطور
الاقتصادي. لقد سلكت الإمارات وقطر والبحرين طريق إعطاء الأولوية للاقتصاد، ويتبع
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خطاهم في خطة رؤية 2030 لتحويل مملكته من اقتصاد
نفطي إلى مركز للتكنولوجيا والإصلاح الاقتصادي والسياحة والترفيه.
مع ذلك، يبدو أن السعوديين أقل اقتناعًا من الإماراتيين بأن للاحتلال دورا
مهما في الشرق الأوسط الجديد، ولكن كما أظهرت محادثات
التطبيع التي بدأت السنة
الماضية، فإن الرياض مستعدة للاعتراف بـ"إسرائيل" كجزء من صفقة أوسع مع الولايات
المتحدة، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل عقد من الزمن.
وفي حين أن الحرب في
غزة عطلت المحادثات ورفعت الثمن الذي يطالب به السعوديون من إسرائيل بشأن القضية
الفلسطينية، فقد أشارت الرياض إلى أنها لا تزال مستعدة للمضي قدمًا.
حسب الصحيفة، تواجه الضرورات الاقتصادية التي دفعت هذه العلاقات رياحاً
معاكسة قوية. فحتى قبل حرب غزة، كان الرأي العام، حتى بين شركاء إسرائيل في
السلام، معادياً لإسرائيل إلى حد كبير.
ووفقًا لاستطلاع أجراه معهد واشنطن لسياسة
الشرق الأدنى قبل سنة، قال 15 بالمائة فقط من الأردنيين إنهم سيدعمون الصفقات
التجارية مع إسرائيل إذا كانت ستساعد اقتصاد بلادهم، ومع أن بلادهم ستعاني من دون
الغاز والمياه الإسرائيلية، إلا أن الأردنيين العاديين يدعون في كثير من الأحيان
إلى
قطع العلاقات مع إسرائيل وإلغاء اتفاقيات الاستيراد. وفي ظل ضغوط شعبية هائلة
بعد اندلاع الحرب في غزة، ألغى الأردن في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي صفقة المياه
مقابل الطاقة مع إسرائيل.
وفي مصر السعودية، وافق حوالي 38 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع على
فكرة القيام بأعمال تجارية مع الاحتلال. وعندما سأل معهد واشنطن السعوديين مؤخرًا
عما إذا كان ينبغي السماح لهم "بإقامة اتصالات تجارية أو رياضية مع
الإسرائيليين"، أجاب 17 بالمائة فقط بنعم، بانخفاض عن 42 بالمائة في صيف 2022.
وذكرت المجلة أنه ليس من المستغرب أن تكون الأعمال التجارية التي تقيمها
الدول العربية مع إسرائيل شأناً نخبويًا يقتصر على الصفقات بين الحكومات والمؤسسات
الكبرى التابعة للدولة، فالطرق العادية لممارسة الأعمال التجارية غير موجودة، كما
أنها كثيرًا ما تكون ذات اتجاه واحد.
لكن كانت الإمارات استثناءً إلى حد ما لهذه
القاعدة. توافد المديرون التنفيذيون والسياح الإسرائيليون إلى الخليج في فترة شهر
العسل التي تلت توقيع اتفاقيات إبراهيم، وكانت الشركات توقّع صفقات استثمار
وشراكة، واستحوذت شركة مبادلة للبترول التابعة لأبو ظبي على حصة 22 بالمائة في حقل
غاز تمار الإسرائيلي، وكانت العديد من الصفقات الاستثمارية الأخرى قيد المناقشة.
وفي سنة 2023، وصلت التجارة البينية إلى 3 مليارات دولار، مسجلة ارتفاعًا من 190
مليون دولار في سنة 2020. ولكن الرد الشعبي الذي أظهره الجانب الإماراتي كان
فاترًا، فقد وجد استطلاع معهد واشنطن أن أقلية من الإماراتيين يعتقدون أن التعامل
مع إسرائيل أمر "مقبول"، ولم يقم الإماراتيون بزيارة إسرائيل إلا بغرض
العمل.
وأشارت المجلة إلى أنه رغم تأكيد القادة الإماراتيين التزامهم بالشراكة
الاقتصادية والسياسية مع الاحتلال، فقد كان هناك فتور ملحوظ منذ بداية الحرب في
غزة. وفي الشهر الماضي، علقت شركة النفط الوطنية في أبو ظبي "أدنوك"
صفقة لشراء حصة 50 بالمائة في شركة الطاقة الإسرائيلية نيوميد، مع شركة بريتيش
بتروليوم. واحتجوا في القرار بـ"البيئة الخارجية"، وعلى الأرجح يقصدون
الحرب.
ولحسن الحظ بالنسبة لمستقبل هذه العلاقات، يبدو أن الحرب في غزة تقترب من
نهايتها. ولكن ليس من المؤكد أن الصراع لن يشتعل من جديد بالهجوم على رفح كما هددت
إسرائيل، أو أن الصراع منخفض الحدة بين إسرائيل وحزب الله لن يتطور إلى حرب شاملة.
وفي الوقت الحالي، وكدليل على إعطاء الأولوية للسياسة الواقعية والمصالح
الاقتصادية من قبل القادة العرب، صمدت هذه العلاقات أمام الاختبار.