عقد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS بواشنطن، جلسة حوارية عنوانها
"الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية في الشرق الأوسط". ويستمد الحوار
أهميته من أهمية الموضوع وأهمية ضيفة الحوار "دانا سترول"، فقد كانت
النائبة السابقة لمساعد وزير الدفاع لشئون الشرق الأوسط، وتعمل حاليا مديرة الأبحاث
في مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدني. وأدار الحوار "جون ألترمان" النائب
الأول لرئيس كرسي زبيغنيو بريجنسكي للأمن العالمي والجيوستراتيجية، ومدير برنامج
الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. وشارك في إدارته أيضا
"ناتاشا هول" و"ليا هيكرت" الزميلتان في برنامج الشرق الأوسط
بالمركز. ونقدم في هذا المقال عرضا موجزا وافيا لما دار في هذه الجلسة الحوارية
المهمة:
موقع الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية قبل حرب غزة
قامت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، وخصوصا في إدارة بايدن، على
أساس أن الصين هي المنافس الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة، ثم تأتي روسيا في
المرتبة الثانية. وقد تراجعت أولوية الشرق الأوسط في هذه الاستراتيجية، حيث ركزت
الولايات المتحدة على اتباع الوسائل الدبلوماسية لا العسكرية لتخفيف حدة الصراعات
وإنهائها. وكذلك الاستثمار في الاستجابات الإنسانية للمدنيين المحتاجين في دول مثل
اليمن وسوريا وأماكن أخرى.
أساس هذه الاستراتيجية هو أن الطريق إلى الاستقرار والأمن في الشرق
الأوسط يكون من خلال التكامل بين شركاء وحلفاء أمريكا في المنطقة. وقامت على سياسة
الردع المتكامل، بما في ذلك قيام الحلفاء والشركاء باستثمارات معينة تفيد أمن
الجميع، بما يعني:
ـ استثمارات ذات مصداقية في أسلحة جيوش الحلفاء والشركاء.
ـ التدريبات العسكرية وتبادل المعلومات.
ـ التنسيق في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية.
ـ التعاون في الفضاء المعلوماتي.
ـ بناء تحالفات بين دول المنطقة لمواجهة التهديدات الأمنية.
ـ عدم التورط العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.
حرب غزة وتغيير الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط
إذن، فقد تراجع الشرق الأوسط في سلم أولويات استراتيجية الأمن
القومي. لكن كل ذلك قد تغير إثر اندلاع حرب السابع من أكتوبر تشرين الأول 2023 بين
حماس وإسرائيل، فقد تحول التركيز على الشرق الأوسط، وتغيرت أفضل الخطط الموضوعة:
كان طوفان الأقصى، ولازال، بمثابة تسونامي سياسي واستراتيجي، وستكون له آثاره وتوابعه الزلزالية على مصير القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة. كما سيكون أيضا أحد العوامل المؤثرة في هذه المرحلة الانتقالية من عمر العالم الذي يشهد تغيرات واسعة المدى في تشكيل القوى الإقليمية والدولية، وتعرية النظم والولاءات والتحالفات.
ـ أصبح مجلس الأمن القومي الأمريكي يجتمع بصفة شبه يومية، بعد أن
كانىت اجتماعاته المتعلقة بالشرق الأوسط في عام 2022 لا تزيد عن اجتماع واحد أو
اجتماعين شهريا قبل الحرب.
ـ تم استخدام العضلات الدبلوماسية.
ـ زاد التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وتدفقت المعدات
العسكرية الأمريكية على إسرائيل.
ـ عملت أمريكا على منع توسع الصراع إلى حرب إقليمية شاملة. وسعت إلى
زيادة الاتصالات بين الجيوش الشريكة في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، التي هي الآن
جزء من القيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM).
ـ الاستثمار في أنواع المعدات التي يمكنها القيام بالدفاع الجوي
المشترك، وإنشاء شبكة للإنذار المبكر وتبادل المعلومات الاستخبارية.
ـ تفعيل ما يعرف القوات البحرية المشتركة (CMF) التي تضم العشرات من الدول، ليس فقط من
الشرق الأوسط، ولكن من جميع أنحاء العالم.
جاءت كل هذه الإجراءات الأمريكية في إطار الردع المتكامل ومفهوم
الأمن الأوسع الذي يتجاوز الحدود الإقليمية لكل دولة بالمنطقة لمواجهة أكثر
التحديات الأمنية إلحاحا في الشرق الأوسط وخصوصا المسيرات الإيرانية الهجومية
والانتحارية القاتلة. ولا يزال التنسيق العسكري والاستخباراتي مرنا للغاية بين
الولايات المتحدة وشركائها في الشرق الأوسط بما فيهم إسرائيل، هذا على الرغم من
الغضب الحقيقي في العالم العربي على إسرائيل بسبب سلوكها في هذه الحرب. ومن الواضح
أن أحد التحديات المحركة في هذه اللحظة من الزمن أن حلفاء وشركاء الولايات المتحدة
يرون أنها دعمت إسرائيل إلى مستوى غير مقبول من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة
وساهمت في الأزمة الإنسانية الرهيبة في غزة. ونظرا لأن الحوثيين وغيرهم من
الجماعات المدعومة من إيران يلفون أنفسهم بعباءة الدفاع عن القضية
الفلسطينية، فقد
دفع ذلك بعض شركاء الولايات المتحدة إلى وضع مسافة علنية بينهم فقد دفع ذلك بعض
شركائنا إلى السعي إلى وضع مسافة علنية بين عواصمهم والولايات المتحدة.
لا أحد يستطيع القول بأنه يمكنه مواجهة إيران ووكلائها بدون الولايات
المتحدة. هناك إحباط وتوتر كبيران لدى شركاء الولايات المتحدة. لكن لا أحد يشكك في
القيمة المضافة للمساهمات العسكرية والبلوماسية الأمريكية، وما يمكن أن تقدمه
الولايات المتحدة من موارد ووسائل لمعالجة الأزمات الخطيرة التي تعصف بالمنطقة
اليوم.
شركاء أمريكا لا يثقون بها
إحدى الشكاوى الأكثر شيوعا لدى شركاء الولايات المتحدة في المنطقة هي
أنه لا يمكن الوثوق بها أو الاعتماد عليها لأن سياستها تتغير كثيرا بناء على من هو
في البيت الأبيض. وهذه شكوى منطقية لأنه من المؤكد أن هناك تقلبات وخلافات كثيرة
جدا، حول العديد من أهداف السياسة العامة وما اعتبرته الإدارات المختلفة إنجازات
لها. وكأن شركاء أمريكا يقولون: نحن لا
نحب الديمقراطية، لأنه كل أربع إلى ثماني سنوات، تتغير الإدارة الأمريكية، ونضطر
إلى التعود على فريق جديد وسياسات جديدة وفهم اللاعبين الجدد".
هل لتغيير الإدارات أثر على الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط؟
على الرغم من تخوفات الشركاء والحلفاء في الشرق الأوسط، فإن السياسات
الأمريكية تجاه الشرق الأوسط تتميز بالثبات على اختلاف الشخصيات والإدارات وأساليب
القيادة والأولويات:
ـ حافظ كل رئيس أمريكي على الوجود العسكري الأمريكي الكبير إلى حد ما
في الشرق الأوسط.
ـ لم يغلق أي رئيس أمريكي القواعد الجوية الأمريكية المهمة جدا في
الشرق الأوسط.
ـ لم يوقف أي رئيس المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية التي
تذهب إلى الشرق الأوسط. وأكبر المستفيدين منها على مستوى العالم هم جميعا في الشرق
الأوسط، باستثناء العامين الماضيين إذ كانت أوكرانيا هي المستفيد الأكبر.
ـ أفضل سفراء الولايات المتحدة، والمعدات العسكرية الأكثر تطورا،
والموارد الأمريكية، والاستثمار في البشر، تذهب إلى الشرق الأوسط.
يركز الكثير من الشركاء والحلفاء على الخطاب الصادر إما من الكونجرس
والبيت الأبيض، ومع ذلك فقد ظلت الاستثمارات الأمريكية والمساعدات في كافة
المجالات ثابتة نسبية. لذا، يتعين على هؤلاء الشركاء التعود التعود على فكرة أن
أمريكا تتغير كل أربع إلى ثماني سنوات ، وأن الديمقراطيات والأعضاء المنتخبين في
الحكومة الأمريكية وفي الكونجرس الأمريكي يستجيبون للناخبين الأمريكيين الذين ليهم
وجهات نظر حول كيفية استخدام الموارد الأمريكية الثمينة، وهذا يختلف عن نظام الحكم
غير الديمقراطي.
هل أثرت حرب أوكرانيا على الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط؟
لن يعود الشرق الأوسط أبدا كما كان قبل 7 أكتوبر على الرغم من حجم التأمر الدولي والإقليمي، وحجم التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني في القطاع الصامد.
في عام 2022، ومع اندلاع حرب أوكرانيا، تخوف البعض من أن الانشغال
الأمريكي قد يؤدي إلى تفكك الشراكات
الأمريكية في الشرق الأوسط؛ لكن المسئولون في واشنطن على مستوى الإدارة والكونجرس
يعملون على التمسك بألا تؤثر الحرب على اهتمام أمريكا بشركائها في الشرق الأوسط.
لقد رأت الإدارة الأمريكية أن إذا لم يتم وقف العدوان الروسي على أوكرانيا، فمن
المؤكد أنه سيشجع خصوم أمريكا في المسارح الأخرى التي قد تعتقد أن العالم لن يحشد
الإرادة السياسية والموارد العسكرية والاقتصادية في مسرح آخر إذا سعى أحد هؤلاء
الخصوم إلى استخدام القوة لإعادة تشكيل الحدود. ومن الواضح أن أن هؤلاء الخصوم هم
الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وإيران في الشرق الأوسط. من وجهة نظر واشنطن
العاصمة، أن شركائها في الشرق الأوسط سيقررون بالتأكيد الوقوف إلى جانب واشنطن،
لأن النظام الدولي الحالي بما يقوم عليه من قواعد يفيد هؤلاء الشركاء، ولذا يجب
عليهم دعم النظام الدولي الحالي، خصوصا وأن هناك محور ناشئ من التعاون والتنسيق
بين الروس والإيرانيين والصينيين والكوريين الشماليين يتحدى طبيعة النظام العالمي
القائم حاليا والذي استفاد منه الغرب وشركاؤه في المنطقة.
الشركاء وطريقة تعامل الولايات المتحدة مع حرب غزة
هناك من شركاء الولايات المتحدة من يتصور أن إسرائيل تستخدم الأسلحة
الأمريكية لتدمير البنية التحتية في غزة لقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، مع عدم
الاكتراث بمعاناة المدنيين. وهناك تقييمات أكثر إثارة للجدل حول ما يفعله
الإسرائيليون بدعم أمريكي مستمر، وأنه عندما يتم الحديث عن نظام قائم على القواعد،
هناك نفاق عميق من الجانب الأمريكي لقوله: "النظام القائم على القواعد ينطبق
على الطريقة التي تدير بها روسيا الحرب، لكنه لا ينطبق على الطريقة التي تدير بها
إسرائيل الحرب". لكن السبيل لمعالجة ذلك لا يتمثل في كسر الشراكة أو وقف كل
الدعم العسكري لذلك الشريك. ومما لا شك فيه أنه ينبغي أن يكون هناك قلق بشأن
الخسائر في صفوف المدنيين والخسائر الإنسانية. لكن ما لا يقوله الشركاء علنا، وما
هم على استعداد للحديث عنه سرا، هو أنهم يريدون تفكيك حماس.
مفهوم النصر في غزة وهل يمكن تحقيقه؟
لقد تغيرت طريقة تفكير الولايات المتحدة في النصر. فقد اعتقدت من قبل
أنها ستحقق نصرا نظيفا في حربها في العراق وأفغانستان في بداية هذا القرن. وهي
تنظر الآن إلى إسرائيل كحليف وثيق يجب أن تحقق النصر في حرب غزة، لأن ذلك النصر
ضروري لبقاء الولايات المتحدة. وهذا ما
عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن
في منتدى ريجان للأمن القومي في كانون الأول/ديسمبر الماضي، عندما تحدث عن تركيز
إسرائيل على النصر التكتيكي بينما تخسر الحرب الاستراتيجية. وما كان يقصده بذلك هو
أنه يجب إعادة تصور شكل النصر. فما تعلمته الولايات المتحدة من حروبها في العراق
وأفغانستان هو أنه لا يوجد نصر "عسكري فقط". وإذا لم يتم الاهتمام
باحتياجات السكان مع التخطيط لما يحدث فور انتهاء القتال، والتخطيط كذلك لإعادة
الإعمار قبل إزالة الأنقاض، فإن النصر سيكون في خطر مطلق.
يدور الكثير من الحديث مع إسرائيل الآن حول ما هو ضروري أو كاف
عسكريا حتى لا تتمكن حماس من العودة إلى السيطرة على غزة. ولكن إذا لم يعطوا
الأولوية لاحتياجات المدنيين في غزة، فلن يتم ضمان أمن إسرائيل أبدا. وهذا هو أحد
الدروس الصعبة التي تعلمتها أمريكا من حروبها. ولذلك، فإن الفكرة التي يرددها
الكثير من الإسرائيليين هي أنهم يريدون التركيز فقط على إضعاف حماس ليس من شأنه
أبدا أن يوفر الأمن لإسرائيل.
صدمة 7 أكتوبر وكيفية التعامل معها
قبل 7 أكتوبر تشرين الأول، كان أكثر الإسرائيليين يقولون إنهم في
صراع مع الفلسطينيين منذ قرن، وكان لدى الأمريكيين والإسرائيليين أنه يتعين إدارة
العداء الفلسطيني الدائم والتأكد من أنهم لن يكون لديهم القدرة على تحدي إسرائيل.
لكن في عالم ما بعد 7 أكتوبر، فإن بايدن قد تحدث في خطاب الاتحاد على أنه إذا لم
تعالج العوامل طويلة الأجل التي تساهم في عدم الاستقرار الدائم في الضفة الغربية
أو غزة، فلن تتمتع إسرائيل أو الإسرائيليون بالأمن. يجب أن تكون هناك تغييرات في
سياسات الحكومة في القدس التي تخدم أمنهم إسرائيل. ويتمثل ذلك في:
ـ بالنسبة لغزة: معالجة الحالة الإنسانية في غزة، والبدء في التخطيط
لما يبدو عليه "اليوم التالي" فيها لأنه لا يمكن تركه على ما هو عليه.
ـ أما الضفة الغربية: فيجب إيلاء الاهتمام لمعالجة الاقتصاد، ومعالجة
انعدام الأمل لدى الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية، واقتصادهم الذي وصل إلى طريق
مسدود.
على الجميع أن يعترف بصدمة 7 أكتوبر. ويجب أن يوضع في الاعتبار أن
الاعتراف الفوري بدولة فلسطينية في غياب إصلاح السلطة الفلسطينية ومكافحة الفساد
ونزع سلاح الدولة الفسطينية وكل هذه القضايا ـ لن تجعل الإسرائيليين يشعرون
بالأمان. هناك تنوع في وجهات النظر لدى الإسرائيليين، وهناك اعتراف بأن عدم
الاستقرار الدائم، والضغط الاقتصادي، وانعدام الفرص، وعدم الثقة في الحكومة في رام
الله لا يخدم في الواقع المصالح الأمنية الإسرائيلية. لذا، فالأمر يحتاج إلى
التفكير في كيفية توصيل ما هو جيد لأمن إسرائيل. فالوضع الراهن أو العودة إلى
الوضع السابق لن يكون جيدا لأمنها. كما أن الظروف مهيأة لمزيد من العنف في الضفة
الغربية أو غزة. وهذا لا يصنع الاستقرار على المدى الطويل.
التعليق
كان طوفان الأقصى، ولازال، بمثابة تسونامي سياسي واستراتيجي، وستكون له آثاره وتوابعه الزلزالية على مصير
القضية الفلسطينية ومستقبل المنطقة. كما سيكون أيضا أحد العوامل المؤثرة في هذه
المرحلة الانتقالية من عمر العالم الذي يشهد تغيرات واسعة المدى في تشكيل القوى
الإقليمية والدولية، وتعرية النظم والولاءات والتحالفات. ولن يعود الشرق الأوسط
أبدا كما كان قبل 7 أكتوبر على الرغم من حجم التأمر الدولي والإقليمي، وحجم
التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني في القطاع الصامد.