لعل من الدروس المهمة التي يمكن تعلمها من تجربة الثورة
الفلسطينية
المعاصرة، هو درس خطأ طرح الحلول لتسوية الصراع. وهو درس مهم جدا لتعلمه، والإفادة
من عدم تكرار الخطأ بحلل جديدة.
بدأت الضغوط تتراكم على قيادة فتح منذ تسلمت قيادة م.ت.ف، وكانت في
منطلقاتها قد أكدت على تحرير فلسطين كل فلسطين، باعتماد استراتيجية الكفاح المسلح.
وكُرسّت هذه المنطلقات في ميثاق م.ت.ف 1968، واختلف هذا الميثاق الأخير عن ميثاق
1964، بالتركيز على استراتيجية المقاومة المسلحة، وإبراز البُعد الفلسطيني
المقاوم، مقارنة بميثاق 1964 الذي ركز على البُعد العربي.
تمثلت الضغوط من قِبَل نخب فلسطينية مهاجرة في الغرب، بضرورة التقدّم بحلّ
إنساني وأخلاقي للصراع بعد التحرير، ابتعادا عن تهمة "رمي اليهود في
البحر". وذلك لكسب الرأي العام الغربي، وإحداث اختراق في الكيان الصهيوني نفسه.
وبالفعل نجحت الاستجابة لهذه الضغوط، بالإعلان عن أن الحلّ الذي تتبناه فتح
هو "إقامة دولة ديمقراطية علمانية يتساوى فيها المسلمون والمسيحيون
واليهود"، طبعا بعد إنجاز التحرير، وتفكيك الكيان الصهيوني، بكل مؤسساته
العسكرية و"الدولتية"، والسياسية والاقتصادية.
المرحلية تحوّلت إلى تنازل خطير من جانبنا، عندما رفع شعار إقامة دولة على قطاع غزة والضفة الغربية وشرق القدس، والذي حلّ عمليا مكان أولوية دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط، أي أولوية تحرير الأراضي التي احتلت عام 1967، وصدرت قرارات دولية بعدم شرعية الاحتلال والاستيطان فيها
وما أن أعلن عن هذا الحلّ، حتى قوبِل بالترحيب على نطاق واسع، خاصة من بعض
مثقفي الغرب، حتى من قِبَل بعض الأحزاب والدول، ولكن دام هذا "البرنامج"
أو "مشروع الحل" أقل من سنتين، حتى انهالت الضغوط، من حيث كونه
"غير عملي"، و"غير واقعي".
هنا بدأ يتدخل بعض اليسار والسوفييت للتقدّم بحلّ مرحلي، يتضمن تحويل الهدف
إلى إقامة سلطة فلسطينية (دولة) على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967. وكان هذا
التنازل الثاني، بعد التنازل الذي حمله برنامج "الدولة الديمقراطية
العلمانية"، الذي قدّم تنازلا غير مرئي: وهو مساواة المستوطنين غير الشرعيين
بالمسلمين والمسيحيين في فلسطين، ومن جانب واحد، جانبنا، فيما القيادة
الصهيونية
والغرب صفقوا لهذه المساواة المجانية، من دون أن يقابلها اعتراف صهيوني بأن
المسلمين والمسيحيين متساوون مع اليهود في فلسطين. (انتبه إلى البُعد المجاني في
التنازل من جانبنا، حتى نكون "إنسانيين" و"أخلاقيين"، فيما
نتعاطى مع غزاة، استولوا على فلسطين، بدعم حِراب الاستعمار البريطاني، واقتلعوا
ثلثي الشعب، واستولوا وحلوا فوق 78 في المئة من فلسطين، يعني أعطيت
"شرعية" لمستوطنين غير شرعيين).
أما التنازل الثاني، فالقبول باقتسام فلسطين، وبإجحافٍ صارخ، كما إعطاء
شرعية للوجود غير الشرعي للكيان الصهيوني الذي قام بالقوة، وبمخالفة صارخة للقانون
الدولي، ولميثاق هيئة الأمم، وذلك حين قررت الجمعية العامة تقرير مصير فلسطين الذي
هو حق حصري للشعب الفلسطيني، وفقا للقانون الدولي.
على أن هذه المرحلية تحوّلت إلى تنازل خطير من جانبنا، عندما رفع شعار
إقامة دولة على قطاع غزة والضفة الغربية وشرق القدس، والذي حلّ عمليا مكان أولوية
دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط، أي أولوية تحرير الأراضي التي احتلت عام 1967،
وصدرت قرارات دولية بعدم شرعية الاحتلال والاستيطان فيها.
هذا الحل المرحلي تغطّى في بداية طرحه بأنه لا يعني الاعتراف بالكيان
الصهيوني، وإنما كما لفلفه بعض "اليسار" أنه مثل تحرير فيتنام، الذي بدأ
أولا بدولة في الشمال، وأخرى في الجنوب بعد معركة ديان بيان فو 1954، ثم حُرّر
الجنوب 1975. ولكن الجنوب هنا كان انقسام شعب واحد في فيتنام، أما في فلسطين،
فعندنا كيان صهيوني يريد التهام كل فلسطين، وطرد كل أهلها، أو أغلبيتهم منها.
كان المقصود الأول من القبول بحلّ الدولتين، أو مطالبة الفلسطينيين بدولة وفقا لقرار التقسيم، أو وفقا لقرار حدود حزيران/ يونيو 1967، هو الإقرار واقعيا أو من حيث المبدأ بتقسيم فلسطين، من حيث إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس
المشكلة الجوهرية كانت بعد إقامة الكيان الصهيوني بالقوة، وهي إصباغ شرعية
حقه بالوجود، والاعتراف به؛ لأن فرضه بالقوّة، أو بالاعتماد على قرار التقسيم رقم
181لعام 1967، لا يعطيانه الشرعية، التي يملكها الشعب الفلسطيني وحده، وفقا
للقانون الدولي.
لهذا كان المقصود الأول من القبول بحلّ الدولتين، أو مطالبة الفلسطينيين
بدولة وفقا لقرار التقسيم، أو وفقا لقرار حدود حزيران/ يونيو 1967، هو الإقرار
واقعيا أو من حيث المبدأ بتقسيم فلسطين، من حيث إقامة دولة فلسطينية في الضفة
الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس.
هنا ارتكبت قيادة م.ت.ف (فتح أساسا) ولا سيما من خلال قرار المجلس الوطني
1988 في الجزائر، خطأها الفادح، وتفريطها الفاضح لثابت الحق الفلسطيني بكل فلسطين،
وحق تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
وكان ذلك خطأ وتفريطا لو جاء مقابل إعطاء دولة فعلا، فكيف إذا جاء مجانا،
بل من خلال تنازل بلا مقابل واقعي، فيما الكيان الصهيوني، وبدعم غربي ودولي، يعمل
على تنفيذ مشروعه، بالاستيلاء على كل فلسطين، وتهويدها، واقتلاع أكبر عدد ممكن من
الفلسطينيين منها.
والأنكى أن هذا القرار تحوّل إلى أولوية، فيما كانت الأولوية هي تحرير
الأرض من الاحتلال والاستيطان (دحر الاحتلال، وتفكيك المستوطنات، بلا قيد أو شرط)
كخطوة راهنة على أرض الصراع، كما هو مفروض واقعيا من 1967 إلى اليوم، وذلك على
طريق تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وإبقاء الكيان الصهيوني فاقدا لشرعية حق
الوجود، والوجود نفسه.