غزة الكشّاف والكاشفة. نورها الساطع على العالمين «كأنه كوكب درّي…. يكاد زيتها يضيء» يفضح المستور ويكشف العورات، ويفتت المقولات الزائفة لدول تدعي الحضارة والتقدم واحترام
حقوق الإنسان والمساوة وتمكين المرأة، وتدعي أنها لا تميز بين أسود وأبيض ولا بين مواطن من أصول شرقية، أو تعود جذوره إلى ألمانيا أو أيرلندا أو إيطاليا. غزة كشفت زيف الحضارة الغربية التي تدعي الإنسانية من الخارج، ولكنها مجبولة على العدوان والقتل والتدمير والتمييز وفنون الشر والكراهية لكل من هو خارج منظومتها.
في الولايات المتحدة لا تسمع خطابا لمرشح رئاسي أو تشريعي، إلا وصدّع رؤوسنا بما يسمى «القيم الأمريكية» مكررا المنظومة نفسها التي أطلقها غير، وسيعيدها من بعده المتسابقون على الكراسي على مستوى البلديات، أو الولايات أو المجلسين وصولا إلى البيت الأبيض. فتعالوا نسبر أغوار هذه القيم، لنجد أن تطبيقها انتقائي عندما يناسب مصالح البلد، وتتخطاها وتدوس عليها وتغمض عينيها عندما تتعارض مع مصالحها ومصالح حلفائها.
يرفعون شعار حرية الرأي، ويطالبون باحترامه في إيران وروسيا والصين وفنزويلا وكوريا الشمالية، لكن عندما يتعلق بحق الطلاب في التعبير عن رأيهم في دعم الحق
الفلسطيني وإدانة حرب الإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني والمطالبة بوقف استثمار الجامعات في الشركات الإسرائيلية ووقف التعاون مع جامعات تؤيد القتل والتمييز والتدمير، تنتهي عندئذ حرية الرأي، ويتحول الأمر، زورا وبهتانا، إلى خطاب الكراهية ومعاداة السامية. وماذا لو كان جزء أساسي من المتظاهرين من اليهود؟ فالإجابة السريعة أنهم «يهود كارهون لأنفسهم، أو مضللون أو شيوعيون أو مغرر بهم».
ينص دستورهم على حق التظاهر السلمي وحق التجمع، وكل ذلك جيد، خاصة إذا قامت التظاهرات في هونغ كونغ، تتحرك الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض ومنظمات حقوق الإنسان وأعضاء المجلسين.. يتسابقون في إدانة ما سموه «عنف الشرطة» التي لم تقتل أحدا ولم تحاصر ولم تقتحم. كل ما في الأمر أن قوانين جديدة صدرت فاحتج الناس عليها عام 2019 وأصبح هؤلاء المحتجون أبطالا في الغرب. لكن في نيويورك ولوس أنجليس وتكساس وجامعات النخبة جميعها مسموح للشرطة أن تقتحم وتعنف وتكسر الحواجز وتتسلق الجدران وتستولي على مخيمات الطلبة، وتعنف الأساتذة مثلهم مثل الطلاب، وتعتقل أكثر من 1500. يقولون على الورق إن الشرطة لا يسمح لها أن تقتحم الحرم الجامعي، لكن إذا تعلق الوضع بغزة وفلسطين والمجازر التي تجري أمام عيون العالم، فلا بأس من الاقتحامات وكسر البوابات ومهاجمة الطلاب بكل عنف واعتقال المئات منهم واتهامهم زورا بتعميم خطاب الكراهية ومعاداة السامية.. اصطلاح «معاداة السامية» أصبح شماعة يعلق عليها أي انتقاد لإسرائيل أو لممارساتها. فإذ قلت فلسطين حرة فهذا شعار معاد للسامية، وإذا قلت ما يجري في غزة حرب إبادة فهذا أيضا يندرج تحت معاداة السامية. لقد وسعوا هذا المصطلح وقريبا سيأتي يوم، إذا لم تعلن ولاءك وحبك وانبهارك بالكيان وممارساته فأنت معاد للسامية. ستكون كل الدنيا معادية للسامية إلا إذا تطوعوا في جيش الدفاع للقتال في غزة ضد الشعب الفلسطيني، الذي طالب بن غفير بإبادته جميعا، دون أن يخرج صوت من «دول الغرب المتحضر» لإدانة هذه التصريحات.
يتغنون بمنظومة حقوق الإنسان التي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، ويقولون إن إليانور روزفلت، أرملة الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، لعبت دورا أساسيا في التوصل إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الذي اعتمدته الجمعية العامة بتاريخ 10 ديسمبر 1948. إنهم صانعو ثقافة حقوق الإنسان، كما يقولون، ويطالبون العالم كله باحترام حقوق الإنسان السياسة والمدنية، ويتغاضون عن بقية المنظومة التي تضمنها «العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية».
مثلا سيف حقوق الإنسان يرتفع عاليا عندما تقوم السلطات الإيرانية بالتصدي للمظاهرات واعتقال عشرات من المتظاهرين، وتصبح مهسا أميني، التي قيل إنها قتلت يوم 16 سبتمبر 2022 على أيدي قوات الأمن، لأنها لم تلبس الحجاب بطريقة سليمة، تصبح رمزا وتقولب بطلة أسطورية، لكن إعدام شيرين أبو عاقلة يمر مرور الكرام، ويبرأ القاتل وتنتهي القصة، وسائق جرافة إسرائيلي يعجن جسد الشابة الأمريكية راتشيل كوري عام 2003 في منطقة رفح، وهي تحاول منع هدم بيوت الفلسطينيين، فلا تهتم بها الإدارة الأمريكية ولا تحمل إسرائيل المسؤولية وينتهي الأمر دون إدانة أو مسؤولية.
عندما وقف شاب صيني عام 1989 أمام دبابة صينية في ميدان تاينمان في العاصمة الصينية بيغين، وقيل إنها دهسته بعد عدة محاولات لتخطيه، لكنه أصر إلا أن يقف أمامها. أصبح ذلك الفتي بطلا أسطوريا وأطلق عليه اسم «المتظاهر المجهول» أو «رجل الدبابة» وتناقلت كل وكالات الأنباء صورته وأصبح رمزا للشجاعة والإقدام والتحدي. أما عندما وقف الطفل الفلسطيني فارس عودة، أيام الانتفاضة الأولى، أمام الدبابة الإسرائيلة وفي يده حجر، فهو متهور ومدفوع ودرع بشري.
* انتفض الغرب بكامله يدين مقتل سبعة عمال متطوعين مع «المطبخ المركزي العالمي» يوم 1 أبريل، وطالبوا فورا بالتحقيق الشفاف وأدانوا العملية واستدعوا سفراء إسرائيل لأنهم متطوعون أجانب. أما اغتيال أربعة مدنيين أمام الكاميرا وقتل 181 من موظفي الأونروا وقتل مئة في مجزرة الطحين وقتل 500 قرب المستشفى الأهلي فلا أحد يطالب بتحقيق فوري وشفاف، الحقيقة أن المحققين الدوليين مشغولون بالتحقيق في مخالفات، لم تثبت إلى هذه اللحظة، قيل إن 12 موظفا من الأونروا ارتكبوها يوم 7 أكتوبر.
صفق الغرب كله لكريم خان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، عندما أصدر مذكرة اعتقال في مايو 2023 بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأنه كما جاء في التهمة، نقل 550 طفلا من أوكرانيا إلى روسيا. والتهمة لم ينكرها الروس، بل أكدوا أنهم نقلوا لحمايتهم. أما مقتل 13 ألف طفل فلسطيني وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، فلا يحرك كل هذا مشاعر السيد خان. وليتملص من المسؤولية قام عن عمد وسبق إصرار بتسريب تهمة «احتمال صدور مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء الكيان الصهيوني ووزير الدفاع ورئيس الأركان» من أجل أن يثير كل القوى الغربية للتصدي لمثل هذه الخطورة وليدفع الولايات المتحدة أن تهدد وتتوعد المحكمة وقضاتها وآلياتها ودورها. كما فعل بالضبط ترامب عندما أثارت المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة «احتمال النظر في جرائم حرب ارتكبت في أفغانستان».
كريم خان طار إلى أوكرانيا لزيارة موقع ما قيل إنه مجزرة ارتكبت يوم 24 فبراير 2022 ودفن الضحايا في قبر جماعي: في «بوتشا» قرب كييف عاصمة أوكرانيا. اهتزت الأرض يومها، عين خان 42 محققا لجمع المعلومات وتوثيق الجرائم. وتنادوا فورا لمجلس الأمن لبحث المجزرة، التي حسب ادعاءاتهم قتل فيها 80 شخصا. كريم خان، طار على الفور ووقف على مكان ما قيل له «مسرح المذبحة»، لكن اكتشاف 3 مذابح في باحات مستشفيات غزة تضم أكثر من 300 ضحية خبر عادي يمر دون ضجة أو أثر، فما من أحد يتابع أو يحقق أو يهتم لأن الضحايا ليسوا مثلنا، فلا عيونهم زرقاء ولا شعرهم أشقر، كما قال رئيس وزراء بلغاريا.
هذه هي الحضارة الغربية التي جسدها الكيان الصهيوني بكل جدارة. فقد جمع الشر من كل أطرافه وجسد المبادئ الغربية أفضل تمثيل، لكن الانهيار بدأ للكيان وللمنظومة التي يمثلها ولا شيء يمكن أن ينقذه من نفسه أولا، ومن غضب الملايين من البشر على طول الكرة الأرضية وعرضها.
(القدس العربي)