مقالات مختارة

كواليس الخطاب الرسمي العربي حول فلسطين

جيتي
غريب أمر هذا النظام العربي البائس الذي ما زال يتعامل مع الشعوب بطريقة ساذجة لا تكاد تستر عورة، أو تغطي عيبا أو تضلل باحثا. يكشفون مكنونات نواياهم للأجنبي ظنا منهم أنه يحفظ السر ويتكتم على المواقف الحقيقية. لكن المسؤولين الأجانب لا يترددون في فضح تلك المواقف والتصريحات والاتفاقيات.

يصدرون بيانات بنفي ما قيل على ألسنتهم من «الأعداء»، ولكن سرعان ما تثبت الأيام والوثائق والمعلومات صحة تلك المواقف والتصريحات والاتفاقيات السرية.

نذكر أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر قال في مذكراته، إن أيا من الزعماء العرب لم يطرح معه في لقاءاته المتواصلة فكرة الاعتراف بفلسطين أو الضغط باتجاه إقامة دولة فلسطينية. وكانت تلك فترة ما بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني.
الملوك والرؤساء ينكرون أي علاقات سرية مع الكيان الصهيوني، لكن الحقائق تظهر فيما بعد

وكان الملوك والرؤساء ينكرون أي علاقات سرية مع الكيان الصهيوني، لكن الحقائق تظهر فيما بعد ونعرف أن المخابرات الصهيونية كانت حاضرة في الطابق العلوي لمؤتمر إحدى القمم العربية، وسجلت جميع محاضر القمة وقيمت قوة الجيوش العربية وإمكاناتها، حيث قدم وزراء الدفاع تقييما قائما على عدم قدرتهم في الوقت الحالي لمواجهة إسرائيل، ويحتاجون إلى عدد من السنوات لبناء قدراتهم العسكرية، ما سهل على الكيان شن حرب 5 يونيو 1967 كي لا تتمكن الجيوش العربية من استكمال استعدادتها.

ونقرأ فيما بعد أن المعلومات عن حرب أكتوبر 1973 وصلت لغولدا مائير قبل الحرب بأيام، إلا أنهم لم يأخذوا تلك المعلومات بجدية واكتشفوا صدقيتها بعد فوات الأوان. في كل خطاب كان يلقيه نتنياهو في الجمعية العامة، قبل السلام الإبراهيمي، كان يقول إننا على تواصل مع الكثير من الدول العربية، عدا الدول الموقعة على اتفاقيات السلام، وكان الجميع ينكر ذلك ويظن أن رئيس وزراء الكيان يعبر عن أحلامه وأمانيه فقط.

ليتبين أن الاتصالات كانت أوسع مما تخيلنا. يزور جنرال سعودي متقاعد من جهاز المخابرات، الكيان الصهيوني عام 2016، ثم يصدر الخبر أنه قام بتلك الزيارة بصفته الشخصية، وهذا هو العذر الأقبح من الذنب. يصل الوزراء الصهاينة إلى عواصم العرب، وتصل الوفود والسياح والصحافيون والفرق الفنية إلى الكيان وتتسع التجارة بشكل واسع، وعندما تثار هذه المسائل يتم نفيها كليا، أو يقدم تفسير واهٍ لها.

طوفان الأقصى وحقيقة المواقف العربية
التأمت الاجتماعات العربية حول مجازر غزة، وصدرت البيانات عن الجامعة العربية التي تشجب وتندد وتدين، وتناشد المجتمع الدولي بالتدخل. ووصلت حشود العرب والمسلمين ذروتها في مؤتمر القمة الطارئ في الرياض للدول العربية والإسلامية يوم 11 نوفمبر، بحضور 57 دولة.

وتناخى القوم وقرروا أن يدخلوا الماء والدواء دون إذن من أحد. وقلنا حينها هذا هو الاختبار.

لم يدخل لا ماء ولا غذاء ولا دواء، بل أغلق المعبر كليا دون أن يصدر عنهم بيان يفسر الإغلاق من الجانب العربي. ما أثار هذه الأشجان حول النفاق العربي الرسمي، وحقيقة مواقف قادة بعض الدول المعنية بحرب الإبادة على غزة، كتاب صدر هذا الشهر للكاتب الاستقصائي بوب ودورد، المشهور بفضح وثائق ووترغيت، التي أسقطت الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون، بعنوان «الحرب» يتناول فيه الكواليس الخلفية لثلاث حروب، أوكرانيا وغزة والسباق إلى البيت الأبيض بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة عن الحزب الديمقراطي كامالا هاريس. وما يعنينا في الكتاب ما ورد موثقا حول لقاءات وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مع بعض الزعماء العرب حول الحرب على غزة.

كشف ودورد في الكتاب مزاعم كثيرة ومثيرة عن علاقة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع بنيامين نتنياهو، خلال الحرب على غزة. ويتضمن الكتاب تفاصيل عن لقاءات وزير الخارجية بلينكن مع بعض الزعماء العرب في جولاته للمنطقة بعد عملية طوفان الأقصى. وهذه بعض الادعاءات المقتبسة من الكتاب، توضح مواقف بعض الزعماء العرب، لنعرف أن الحرب على غزة ليست فقط حرب إسرائيل والولايات المتحدة، بل وبعض الدول العربية أيضا.

– في يوم 13 أكتوبر 2023 زار بلينكن الملك الأردني عبد الله الثاني، فقال له الملك: «قلنا لإسرائيل ألا تفعلي هذا، قلنا لهم ألا يأمنوا حماس. حماس هي من جماعة الإخوان المسلمين. يجب على إسرائيل هزيمة حماس. لن نقول ذلك في العلن لكننا ندعم هزيمة حماس».

– في يوم 14 أكتوبر 2023 زار بلينكن أبوظبي والتقى بمحمد بن زايد فقال له: «يجب القضاء على حماس، لقد حذرنا إسرائيل مرارا من أن حماس هي جماعة الإخوان المسلمين، يمكننا أن نمنح الوقت لإسرائيل للقضاء على حماس، ولكن يجب عليها أولا أن تساعدنا لكي نهدئ مواطنينا من صور العنف والدمار في غزة، وذلك بإدخال المساعدات وإنشاء مناطق آمنة والسيطرة على عنف المستوطنين في الضفة الغربية. فلتساعدنا تجاه مواطنينا وسنمنحها المساحة للقضاء على حماس».

– في 14 أكتوبر 2023 زار بلينكن الرياض والتقى أولا بوزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، فقال له: «كان يجب على إسرائيل أن لا تأمن لحماس، وقد حذرنا نتنياهو من ذلك مرارا، فحماس هي جماعة الإخوان المسلمين. وواصل وزير الخارجية السعودي قوله: «الجماعات الإرهابية لا تحاول القضاء على إسرائيل فقط، بل تريد الإطاحة بزعماء عرب آخرين، نحن قلقون مما ستخلفه عملية إسرائيل على أمننا جميعا، وما سيأتي بعد حماس قد يكون أسوأ، فداعش جاءت بعد القاعدة وهي أسوأ منها، ولن نقوم بدفع دولار واحد لإعادة إعمار غزة بعد الفوضى التي قام بها نتنياهو».

– صباح يوم 15 أكتوبر 2023 قام بلينكن بمقابلة ولي عهد السعودية محمد بن سلمان – فقال لهم بن سلمان: «أريد أن تختفي المشاكل التي أحدثها 7 أكتوبر. يجب أن تقوم دولة فلسطينية قبل التطبيع مع إسرائيل. أنا لا أريد ذلك ولكنني احتاجه لتبرير التطبيع، أريد العودة إلى رؤية 2030 بالتطبيع مع إسرائيل. يجب ان تكون غزة هادئة أولا لنقوم بالتطبيع مع إسرائيل» .

– قبل عودة بلينكن إلى إسرائيل عرج على مصر فالتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقاهرة، فطلب السيسي من الوفد الأمريكي الخروج ليبقى مع بلينكن بمفردهما، فكان كل كلامه يتمحور حول نقطة واحدة وهي أنه «يريد فقط الحفاظ على السلام مع إسرائيل».

التقى الوفد المرافق لبلينكن، بعد خروجه من اللقاء بطلب من السيسي، بوزير الخارجية المصري سامح شكري ورئيس المخابرات عباس كامل. فقدم عباس كامل معلومات مهمة للوفد الأمريكي عن عمق وامتداد الأنفاق تحت غزة.

ووضح لهم أن حركة حماس متحصنة بغزة وسيكون من الصعب القضاء عليها، ويجب على إسرائيل أن لا تدخل غزة دفعة واحدة، بل يجب ان يكون ذلك على مراحل. وأن تترك المجال لقادة حماس بالخروج من الأنفاق قبل أن تقوم بقطع رؤوسهم مرة واحدة».

هذه هي الحقائق فهل يتجرأ أحد أن يكذب ما جاء في الكتاب من معلومات؟

لقد كانت عصا السنوار التي أطلقها نحو المسيرة قذيفة بحجم الكون موجهة للكيان الصهيوني وداعميه من الولايات المتحدة والدول الغربية وكذلك للنظام العربي الرسمي المتآمر مع الطرفين السابقين في حرب الإبادة هذه، كي لا يبقى للكرامة والشجاعة والصمود والعزة والإيمان مكان فيتساوى عندها الجميع في الخضوع والاستكانة والاستسلام.

القدس العربي