منذ الإعلان عن تدشين مؤسسة تكوين
الفكر العربي المعروفة اختصارا بـ"مركز
تكوين" والجدل حول المركز ومجلس الأمناء فيه، وأفكارهم والأهداف التي من
أجلها أسس المركز، لم يتوقف، بل ووصل الحال إلى المطالبة بإغلاق المؤسسة، بشكوى قُدمت
للنائب العام
المصري، بدعوى تشكيك المركز والقائمين عليها في ثوابت الدين الإسلامي
ونشره للفتنة في العالم العربي والإسلامي.
قالت العرب اسمع مني ولا تسمع عني، فربما أكون بعينك جنة، وبعين أحدهم نارا،
فتحرقك نار القيل والقال. يعرّف
مركز تكوين نفسه بأنه "مؤسسة تعمل على تطوير
خطاب التسامح وفتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقدية وطرح الأسئلة حول
المسلّمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي
الذي انطلق منذ قرنين".. وهل يختلف اثنان على هذه الأهداف التي وافقت صحيح
الإسلام، لذا فلماذا هذه الزوبعة التي وصلت لدخول الأزهر الشريف على الخط؟!
بداية عزيزي القارئ، علينا أن نتفق، وبعيدا عن "الترند" والصياح
الأجوف، أن علينا أن نحاور الفكرة، ولا دخل لنا بالمفكر، فكل ما حرّك تلك الزوبعة،
إنما هؤلاء الأشخاص الذين تصدروا المشهد، وتلك الصورة الشهيرة لهم مع زجاجة الخمر،
مع ذلك فعلينا أن نناقش الفكرة والأهداف التي وضعها المركز ليحققها، والمنهج الذي
اختاره لتنفيذ هذه الأهداف. فأبو نواس الذي امتلك ثقافة فكرية متنوعة، متناقضة
ومتمردة على ما ساد في زمنه من تقاليد وثوابت اجتماعية، ودعوته إلى الانعتاق من كل
ما يرفضه العقل، في الوقت نفسه كان محافظا على الصياغة الأصيلة للغة العربية، فقال
عنه الإمام الشافعي "لولا مجون أبي نواس لأخذت عنه العلم". أي علم يا
شافعي؟ المفهوم هو علم اللغة وطريقة التفكير، ولا غير.
في أهداف مركز تكوين، حديث عن تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين،
وهنا مربط الفرس ومناط الاختلاف مع الفكرة، أي مشروع نهضوي بدأ منذ قرنين؟ هو
مشروع التغريب الذي أراده لنا المحتل، الذي انبهر به من سافر في بعثات للغرب لنقل
الحضارة، فنقلت معها فيروس الغزو الفكري والتقليد الأعمى للحضارة السائدة، فظن
العوام أن تقليد الملبس ونمط الحياة هما الحضارة، وأن تبني الأفكار الفلسفية أو
السياسية هو التنوير بعينه، دون مراعاة الخصوصية الحضارية والدينية لمجتمعاتنا،
وعليه فكانت تلك البعثات حصان طروادة التي بها استطاع المحتل غزو بلادنا فكريا قبل
أن يطأها عسكريا.
لقد عرف المحتل أن أهم ما يميز أي شعب ويجعله متماسكا؛ هي القيم، أيا كانت
هذه القيم، ويبدأ الغزو الفكري، ويعمل على أن يتغلغل في المجتمع فيقع الأفراد ضحية
هذا الغزو، وينقادون له فتصبح الأمة مسيطرا عليها فكريا. وغالبا يستهدف هذا الغزو
أمة الإسلام، من خلال وكلاء المحتل، سعيا لتحقيق انسلاخا كاملا لأبنائها عن
عقيدتها،
الحديث عن تطوير خطاب التسامح، الذي يتحدث عنه مركز تكوين، والمقصود به بالطبع خطاب الدين، المفكرون المتخصصون في الشريعة والعقيدة وعلم الحديث والأصول والمصطلح والدعوة والأصول وعلم الكلام وعلم اللغة؛ أولى به ممن يرون في أنفسهم أنهم تنويريون، وهم في الحقيقة ظلاميون، يظلمون أنفسهم بالحديث فيما لا يفقهونه
وذلك لأن هذه الأمة بما تحمل من فكر وعقيدة، قادرة على إخراج الناس من
جور الحكام إلى عدل الإسلام، ومن عبادة الشهوات، وما يتبعها من استعباد الأفراد
لتحقيق مكاسب مادية نفعية، إلى تشاركية سمحة تحترم إنسانية الإنسان وكرامته، وترى
فيه الحاجات والرغبات المادية التي يجب أن تُشبع، كما ترى فيه الروحانيات التي يجب
أن تُرضى.
في عام 1835 وفي محضر حول التعليم الهندي، انتقد السياسي البريطاني، توماس
ماكاولي، اللغات الهندية جزئيا، بسبب افتقارها إلى المصطلحات العلمية، وادعى أن
لغات مثل اللغتين السنسكريتية والعربية هي لغات "قاحلة وخالية من المعرفة
المفيدة"، و"مليئة بالخرافات الوحشية" وتنطوي على "تاريخ
مضلل، وعلم فلك خاطئ، وطب زائف"، على الرغم من أن هذه الحضارات هي التي بنى
عليها علماء بلاده الحضارة التي بها احتلوا أراضينا، وتقبلتها ثقافة المنهزم، لأن
المنهزم لم يقدم خلال فترة نهوض الحضارة الغربية، ما به ينافح عن حضارته وتاريخها.
إن الحديث عن تطوير خطاب التسامح، الذي يتحدث عنه مركز تكوين، والمقصود به
بالطبع خطاب الدين، المفكرون المتخصصون في الشريعة والعقيدة وعلم الحديث والأصول
والمصطلح والدعوة والأصول وعلم الكلام وعلم اللغة؛ أولى به ممن يرون في أنفسهم
أنهم تنويريون، وهم في الحقيقة ظلاميون، يظلمون أنفسهم بالحديث فيما لا يفقهونه،
فما هم بأصحاب فنٍ كي يقحموا أنفسهم في هذا المجال.
وحديث مركز تكوين عن فتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقدية، هو
واجب يدفعنا إليه الدين دفعا، وفي السنّة مواقف أقرها النبي صلى الله عليه وسلم
تؤكد على هذا السلوك، ثم إنَّ حديث المركز عن وجوب طرح الأسئلة حول المسلّمات
الفكرية، هو منهج قرآني لا يستقيم إسلام المسلم إلا بانتهاجه، لكن من له الحق في
الإجابة على التساؤلات ومن له صلاحية رسم هذا المنهج وتعليم الناس وتدريبهم على
انتهاجه، هم العلماء.
ما حدث في مصر من تدشين مركز تكوين يجد له مثيلا في بعض الدول العربية، ما يعني أن هناك من يحيك لهذه الأمة أمرا
إن تهوين العلماء من شأن الدعوات التي تتخذ من العناوين الشرعية وسيلة
لتضليل الناس وحرفهم عن دينهم، بدعوة إعمال العقل، وهم رجال ونحن رجال، هو خطر
عظيم لا يمكن تمريره، فانحراف الزاوية وسقوط البنيان يبدأ بمليمتر، ولو أن الله
حافظ دينه، فإن الانهيار يكون للمجتمعات لا للدين، فإذا ما كان أعضاء مجلس الأمناء
لمركز تكوين قد عُرف عنهم الشطط حتى إنَّ بعضهم أنكر معلوما من الدين بالضرورة
وآخر استهزأ بآيات من القرآن، فما بالنا إذا كان الحديث عن الآخرة، وكيف بهم من
تفسير سورة التكوير، إذا لم يجدوا من العلم ما يمكن قبول ما جاء في السورة عندهم.
ما حدث في مصر من تدشين مركز تكوين يجد له مثيلا في بعض الدول العربية، ما
يعني أن هناك من يحيك لهذه الأمة أمرا. وأعود وأكرر بأنه ما كان لهؤلاء أن يتحركوا
متخفين تحت منهج الإسلام الذي يدعو لإعمال العقل والتجديد والحداثة إلا لعوار في
أداء المؤسسات المعنية، ولا أعني هنا المؤسسات الدينية الحكومية، ولكن لمؤسسات
العمل الدعوي الأهلي، فيما يندرج تحت مظلة المجتمع المدني، ورصد الحالة الفكرية
وتقديم الرؤى الشرعية لها، وتنوير المجتمع وتحصينه ضد فيروسات التغريب وسلخه من
هويته الإسلامية العربية، فقد بات الأمر واجب وقت وثغرة يجب سدها دون الاستهانة،
فأصحاب المخطط يعملون على خطط طويلة أمد، وتؤثر بمرور الزمن.