تعيش
تونس حاليا مواجهة مفتوحة بين السلطة والمحامين، فالهجوم المباشر
الذي تعرضت له دار المحامي من قبل أمنيين ملثمين ليلة الأحد الماضي شكل النقطة
التي أفاضت الكأس في العلاقة المتوترة بين الطرفين منذ أشهر عديدة على الأقل. إذ
صدرت بطاقة جلب للمحامية سنية الدهماني بناء على تعليق إعلامي اعتبرته السلطة
"جريمة خطيرة" يجب أن تحاسب عليها وفق المرسوم 54. من جهتها رفضت
المحامية الاستسلام، وهي تتمتع باحترام المتابعين لتعليقاتها، واستنجدت بزملائها
من أجل التنسيق معهم ووضع خطة جماعية للدفاع؛ ليس عن نفسها فقط ولكن أيضا عن حرية
الكلمة التي اعتبرتها مهددة أكثر من أي وقت مضى.
ولم تنكر سنية الدهماني كونها "متمردة" ورافضة لتنفيذ القرار
القضائي، لأنه حسب اعتقادها هو "قرار سياسي" يهدف إلى إخضاع المحاماة مثلما
حصل من قبل مع القضاة، وتحجيم دور المحامين. بذلك توفرت عناصر الاشتباك بين هذا
القطاع الحيوي في تونس وبين السلطة القائمة، فتحولت المسألة إلى أزمة مفتوحة سيكون
لها ما بعدها.
لم يجد المحامون أنفسهم وحدهم في هذه المعركة، إذ سرعان ما دعمتهم منظمات
وجمعيات وازنة في تونس؛ مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أدان بشدة الاقتحام الأمني
واعتبره "غير مسبوق"، مؤكدا بالخصوص على أنه يسجل "تصاعد موجة خنق
الحريات العامة والخاصة"،
الأسلوب العنيف الذي اعتمدته السلطة جعل القضية تتجاوز نطاق الحادثة الفردية التي كان بالإمكان تسويتها بطريقة ما، لتصبح معركة متعددة الجبهات تشمل قطاعات واسعة من المجتمع المدني، خاصة بعد مطالبة المحامين الرئيس قيس سعيد بـ"الرحيل" وتأكيد النقابيين على مساندتهم لجميع الأشكال النضالية التي يتخذها المحامون
ويدعو إلى التصدي لها. كذلك أصدرت الرابطة التونسية
للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة الصحافيين التونسيين وجمعية النساء الديمقراطيات
بيانات مماثلة؛ تؤكد دعمها للمحاماة التي تتعرض حسب اعتقادهم إلى مظلمة.
ولا شك في أن الأسلوب العنيف الذي اعتمدته السلطة جعل القضية تتجاوز نطاق الحادثة
الفردية التي كان بالإمكان تسويتها بطريقة ما، لتصبح معركة متعددة الجبهات تشمل
قطاعات واسعة من
المجتمع المدني، خاصة بعد مطالبة المحامين الرئيس
قيس سعيد بـ"الرحيل"
وتأكيد النقابيين على مساندتهم لجميع الأشكال النضالية التي يتخذها المحامون.
في هذا السياق تبرز مسألتان مهمتان لفهم ما يجري في تونس:
تتعلق المسألة الأولى بأن "المشروع السياسي" الذي يدافع عنه
الرئيس سعيد منذ اندلاع الثورة لا يقر بشرعية الهياكل الوسيطة التي يطلق بالمجتمع
المدني، لهذا عمل بعد انفراده بالسلطة في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو على
تحجيم الأحزاب والجمعيات. ورفض أن تكون هذه الهياكل مستقلة عن الدولة، أو أن تكون
لها أدوار ونفوذ بعيدا عن السياسات الرسمية. وما يجري اليوم يندرج ضمن هذه الرؤية،
وكما فعل مع القضاء الذي اعتبره وظيفة تابعة للدولة وحرم القضاة من أن يكونوا سلطة
مستقلة، يعمل حاليا على إخضاع المحاماة، وتطويع المحامين، وعدم السماح لهم بما
يعتبره تطاولا على الدولة. فأي شكل من أشكال التمرد سيواجه بقوة الدولة مهما كانت
الأدوات والوسائل.
مفهوم الحرية عندهم يختلف جوهريا عن مفهوم الرئيس لها؛ فهو مع تمسكه بقيمة الحرية لكن بشرط ألا تتحول إلى فوضى وتفتيت للدولة وتمييع للقانون، في حين تتمسك بقية الأطراف المناهضة بأن الحريات هي منظومة متكاملة، من شأنها أن تحد من سلطة الدولة وتقيد صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية، وتضفي الشرعية على الحق في انتقاده والاختلاف معه والتصدي لتجاوزاته دون خوف
أما المسألة الثانية فهي تتعلق بالحريات التي يتمسك بها خصوم الرئيس سعيد،
ويعتبرونها المكسب الرئيسي الذي تحصلوا عليه بعد الثورة، وغير مستعدين للتفريط فيه
مهما كان حجم الثمن الذي سيدفعونه. فمفهوم الحرية عندهم يختلف جوهريا عن مفهوم
الرئيس لها؛ فهو مع تمسكه بقيمة الحرية لكن بشرط ألا تتحول إلى فوضى وتفتيت للدولة
وتمييع للقانون، في حين تتمسك بقية الأطراف المناهضة بأن الحريات هي منظومة
متكاملة، من شأنها أن تحد من سلطة الدولة وتقيد صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية،
وتضفي الشرعية على الحق في انتقاده والاختلاف معه والتصدي لتجاوزاته دون خوف.
في هذا المنعطف بالذات يتنزل الحدث الراهن في تونس، فللمحامين تاريخ طويل
في النضال ضد مختلف الحكومات التي تعاقبت منذ الاستقلال إلى اللحظة الراهنة،
وحاولت التحكم فيهم. هم يشكلون قوة دافعة ضمن منظومة المجتمع المدني المتمسك بدوره
واستقلاليته ومكاسبه، لهذا السبب بالذات تفاعلت بقية أجزاء ومكونات هذا المجتمع
المدني الذي رغم الضربات التي تلقاها إجرائيا وتنظيميا، ورغم ما يتعرض له من حملات
تشكيك في وجوده ومصداقيته ووطنيته، واتهامه بالعمالة وعدم النزاهة، لا يزال حيا
وصامدا وقادرا على المواجهة.