ما كان استعراض الجيوش والتهليل لها محل سخرية وسخط كما هو الحال منذ
السابع من أكتوبر الماضي وبعد انتفاضة الأقصى، فالجيوش العربية يعد عناصرها
بالملايين وعتادها يقيم بمئات المليارات من الدولارات، إلا أنها خارج معادلة
التدافع اليوم، وبعضها يوظف لخدمة العدوان الإسرائيلي.
لقد دمرت قوة غير نظامية في غزة أسطورة
الجيش الذي لا يهزم، وبالنظر
إلى تجربة عملية الكرامة في الشرق الليبي، فإن انتصارها في حرب بنغازي خلال
الأعوام 2014 ـ 2017م تحقق بفعالية المجموع الكبير من المقاتلين غير النظاميين، وصرح
أبرز القادة الميدانيين، العقيد فرج البرعصي، من أن عدد العسكريين ممن شاركوا في
العمليات العسكرية في حرب بنغازي لم يتجاوز 5 ـ 10%. وحين تحول الجيش إلى النمط
النظامي العسكري التقليدي، أخفق في هزيمة مجموعات مسلحة غير نظامية، وذلك في حرب
الجيش على العاصمة العام 2019م، برغم التفوق الكبير في العتاد وبرغم وجود عناصر
أجنبية مدربة، هم قوات فاغنر،، فقد استمات المدافعون، والكثير منهم مدنيون، في
إفشال خطة دخول العاصمة طرابلس أشهرا، قبل
أن ينقلب الدفاع إلى هجوم بدعم من الاتراك.
ما يزال الاعتماد على الجيوش والإنفاق عليها بسخاء أساسيا لدى
الأنظمة العسكرية الشمولية، وبرز نموذج الجيش "البزناس" الذي يدير
مشروعات تجارية وشركات بناء وتشييد ومصانع وغيرها، ويبدو أن الجيش التابع لمجلس
النواب يسير على خطى التجربة المصرية في هذا الصدد، ليصبح السؤال المشروع: ما هي
مهمة الجيش ومسؤوليته وقد ثبت أنه عاجز عن تحقيق انتصارات على الأرض، ومنسحب من
معركة الأمة، وتشوهت رسالته، وانحرف عن مهمته؟
في الحالة الليبية اليوم، فإن الدور الذي اعتبره غالبية أنصار الجيش في الشرق بناء وذلك بعد العام 2014م، من خلال محاربة "الإرهاب"، صار محل شك لدى كثير من مؤيديه بعد أن أعيد تشكيله تحت سيطرة الأسرة المتنفذة، ودخل في عملية غربلة وفقا لمعايير بعيدة عن الأسس الصحيحة لبناء الجيوش، واتجه إلى تحقيق غايات سياسية من المفترض أن ينأى الجيش بنفسه عنها.
من يدافعون عن الجيش بشكله وتركيبته الحالية في الشرق الليبي
باستماته ينقسمون إلى أقلية هم أصحاب منفعة، وأغلبية يعتقدون أن الجيش هو ضمانة
الاستقرار والأمان وبناء الدولة، والحقيقة أن هذا الفهم مغلوط، فالاستقرار الأمني
فترة النظام السابق الذي دام عقودا لا علاقة للجيش به، بل فرضته أجهزة وكتائب
أمنية، وهذا هو الحال في أغلب الأنظمة الاستبدادية المغلقة التي حكمت، ولا تزال،
العالم العربي.
وبالعودة للتجربة الليبية ومسؤولية الجيش في الأزمات والملامات، لم
يكن للقوات المسلحة النظامية دور سلبي أو إيجابي العام 2011م، فمن اعتمد عليهم
النظام السابق في حربه على من طالب بإسقاطه معظمهم كتائب أمنية ومتطوعون، ومن ساهم
بدرجة كبيرة في مقاومته ثم إسقاطه جُلهم ليسوا عسكريين.
التجربة السورية لا تخلو من أمثلة موافقة لهذا التحليل، واليمن أكثر
وضوحا في هذا الصدد، فبغض النظر عن الموقف الصحيح للمتحاربين سياسيا وأخلاقيا، فإن
إرادة القوات النظامية، السعودية والإماراتية ومن ناصرهم من دول أخرى، والمجهزة
تجهيزا كبيرا والمدعومة بالطيران والدبابات والمدافع والقواذف الحديثة تكسرت أمام
قوة غير مصنفة ضمن الجيوش، وهم الحوثيون.
من ناحية أخرى، فقد ثبت أن الارتكان للجيوش تحول إلى توظيف سياسي
هدام، وهذا حال الأنظمة العسكرية خلال العقود الست الماضية، ومثاله الأوضح في
الوقت الراهن هو مصر، وفي الحالة الليبية اليوم، فإن الدور الذي اعتبره غالبية
أنصار الجيش في الشرق بناء وذلك بعد العام 2014م، من خلال محاربة
"الإرهاب"، صار محل شك لدى كثير من مؤيديه بعد أن أعيد تشكيله تحت سيطرة
الأسرة المتنفذة، ودخل في عملية غربلة وفقا لمعايير بعيدة عن الأسس الصحيحة لبناء
الجيوش، واتجه إلى تحقيق غايات سياسية من المفترض أن ينأى الجيش بنفسه عنها.
أرجع إلى تقييم خبراء عسكريين ومحللين ومخططين استراتجيين عسكريين
وأمنيين لما وقع ويقع الآن في غزة ستصل إلى خلاصة مهمة تتعلق بالأهداف التي من
أجلها تشكلت الجيوش والتي تتمحور حول الدفاع عن البلاد من العدوان الخارجي، وأن
النمطية التي على أساسها تبنى الجيوش والأغراض التي من أجلها تتشكل لا تحقق هذه
الغاية، والنبراس ليس فقط غزة، فالشواهد التاريخية والمعاصرة كثيرة، وعندما تكون القضية عادلة
والحق أبلج فإن الدفاع عنها سيكون عقيدة يهب الإنسان روحه لأجلها، أما إذا دخلت
المصالح الضيقة على الخط، وصار الجيش أداة في الصراع الداخلي، فإن النتاج جسم
بيروقراطي مترهل وعبئ على الخزانة والدولة وكيان بعيد عن المصلحة الوطنية.
أختم بالقول إن هذا التقييم لا مفهوم مخالفة له، أي لا يفيد بدعم
الوضع الأمني والعسكري في المنطقة الغربية في البلاد واعتباره نموذجا سليما، بل هو
وضع بائس ونموذج سيء، والكلام في هذا المقال له مناسبة هي الاستعراض العسكري
الكبير احتفالا بذكري عملية الكرامة.