في الجولة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي إلى الشرق الأوسط، وزيارته للمملكة العربية
السعودية، قيل إن الزيارة لها دلالة تتعلق باقتراب التوصل إلى اتفاق أمني بين الرياض وواشنطن، وإن مسودة الاتفاق قد تكون طُرحت أمام أنظار المسؤولين في السعودية، بعد مجموعة محادثات علنية وسرية، حدثت بين الطرفين على مدى الشهور المنصرمة، لتقريب وجهات النظر في المواضيع الخلافية. لكن ربما ما طرحه بلينكن كان مسودة اتفاق أمني وليس معاهدة أمنية، إضافة إلى بعض الأفكار المتعلقة بالمفاعل النووي السعودي المستقبلي، حيث أشار إلى
اتفاقية دفاع ثنائية، واتفاق آخر يتعلق ببرنامج نووي مدني سعودي، وهنا يبدو أن الفجوة قد تقلصت كثيرا بين الطرفين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرياض كانت تُركّز على معاهدة دفاع مشترك، وليس اتفاقا إطاريا فقط، لأن الرياض تريد أن تكون هذه الاتفاقية مع الدولة الأمريكية وليس مع الإدارة الديمقراطية الحالية، مخافة أن تأتي إدارة جمهورية تنقض الاتفاق. بالتالي فإن المعاهدة بحاجة إلى تصويت ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ بالموافقة. كما أن العنصر الثاني المهم الذي تريده الرياض هو، المفاعل النووي السلمي، ومطلوب من الولايات المتحدة أن تساعد الرياض في هذا الأمر. وكان هناك تصريح سابق لوزير الخارجية السعودي قال فيه، إن لم يكن للأمريكيين الرغبة في المساعدة في ذلك، فهنالك أطراف دولية أخرى لديها الاستعداد لتحقيق رغبة الرياض، واليوم يقول الوزير نفسه إن (الاتفاقية الثنائية بين المملكة والولايات المتحدة قد اقتربت من الانتهاء). كما صرح بلينكن قائلا: ( أظن أن العمل الذي تقوم به السعودية والولايات المتحدة معا بشأن اتفاقياتنا قد يكون قريبا جدا من الانتهاء).ومع ذلك يبدو أن هناك بعض الفجوات بين الموقف الأمريكي والموقف السعودي في موضوعين أساسيين: الأول في موضوع المعاهدة الأمنية، حيث لا يتوفر الوقت الكافي لتحقيقها، كون الولايات المتحدة على أعتاب انتخابات رئاسية، ولأن المعاهدة يجب أن تحصل على موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، وهذه بحاجة إلى مداولات وصفقات فوق وتحت الطاولة، ولأن هناك مرحلة انتخابات بالنسبة للجمهوريين، فإن المرشح الجمهوري دونالد ترامب سيقول لا توقعوا على الاتفاقية الآن، ودعوني أنا آتي باتفاقية أفضل منها. وعليه فإن الوضع معقد الآن فحتى لو تم عرضها على مجلس الشيوخ، وبدأت المداولات بشأنها داخل المجلس، لن يكون هناك وقت لإقرارها. وهذه مسألة واقع سياسي في سنة انتخابية. هذا هو التحدي الأول. أما التحدي الثاني فهو سياسي فالتوقيع على معاهدة مع الولايات المتحدة يتطلب من الدولة أن يكون توجهها الاستراتيجي مطابق للتوجه الأمريكي، وأن ما تعرضه السعودية في طلبها لتوقيع المعاهدة لن يكفي، لأن على الرياض أن تلتزم أيضا بأن تكون ضمن بلدان الخط الاستراتيجي للولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك فإن بعض المراقبين يقولون، إن هذه المعوقات ليست مستحيلة لكنها تحتاج إلى وقت لتذليلها، ولكن ماذا بشأن التطبيع مع إسرائيل؟ هل هو أحد الأثمان التي يجب أن تدفعها المملكة في سبيل ذلك؟
منذ البداية سمعنا أن الموقف الرسمي السعودي يقول، إن إحدى الركائز الأساسية لإقامة اتفاق أمني مع الولايات المتحدة هي إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ويبدو أن الرياض لم تُقدّم أي تنازلات في هذا الجانب، وبذلك ألقت الكرة في الملعب الأمريكي، خاصة نحن أمامنا 6 أشهر على الانتخابات الأمريكية، فإذا تحقق هذا الهدف ستذهب الرياض إلى التطبيع مع إسرائيل وبعكسه لن يحصل شيء. وهنا يقول وزير الخارجية الأمريكي بلينكن (للمضي نحو التطبيع لا بد من الهدوء في غزة، ومسار موثوق نحو دولة فلسطينية)، ويقول نظيره وزير الخارجية السعودي (لدينا الخطوط العريضة للتعامل مع القضية الفلسطينية)، لكن الحقيقة هي أنه لا يوجد تطور أمريكي الآن في هذا الاتجاه، فبلينكن وغيره من المسؤولين الأمريكيين يقولون نريد خطوات واضحة نحو الدولة الفلسطينية، لكن ما هي هذه الخطوات؟ ما شكلها وما طبيعتها؟ يبدو أن لا اتفاق عليها بسبب أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ليس لديها الاستعداد للنقاش في ذلك، لأسباب أيديولوجية وأسباب سياسية أيضا، فلو رشح أي شيء عن أن نتنياهو يناقش موضوع الدولة الفلسطينية مع الأمريكيين سينهار تحالفه السياسي، لذلك يبدو أن الأمريكيين يُركّزون على الجانب الإجرائي والتزام عام، وهذا ما يسمونه خطوات لا يمكن التراجع عنها. وهذا الجانب الإجرائي ليس فيه سوى أن تكون الدولة الفلسطينية المنشودة منزوعة السلاح، ولا مكان فيها لحركة حماس، أما غير ذلك فهو متروك للمستقبل.
إذن ما هو مطروح أمريكيا في الحقيقة لا يلبي ليس فقط الحد الأدنى للمطلوب فلسطينيا، بل لا يلبي حتى المطلوب عربيا أيضا، وإذا نظرنا إلى تصريحات وزراء خارجية مصر والسعودية والإمارات والأردن وغيرهم، كلهم يطلبون الاعتراف بدولة فلسطينية، هذا لا يعني قيام هذه الدولة غدا أو بعد غد، بل هو إعلان عن أنهم يريدون التزامات لا يمكن التراجع عنها، والولايات المتحدة لا تريد، ولا تستطيع تقديم التزامات كهذه. وكل المأمول منه هو تصريح إطاري ثم ركن الملف إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية، وبعد أن تتضح الصورة في غزة، فقد تكون هناك فرصة للتقدم والوصول إلى شيء أكثر وضوحا، لكن لحد الآن ما مطروح أمريكيا غير مقبول ليس فلسطينيا وحسب، بل عربيا أيضا.
لكن الملاحظ أن الولايات المتحدة تبدو مندفعة جدا في تحقيق اتفاقية أمنية مع السعودية، رغبة منها في حصول انفراجة في مسار التطبيع مع إسرائيل، وتقف خلف هذا الموقف ثلاثة عوامل مهمة جدا وهي أولا، دخول الصين على أزمة الشرق الأوسط، فإدارة بايدن كان لديها تفكير بالتقليل من أولوية الشرق الأوسط للتركيز على الصين، لكنها اكتشفت أنه لا يمكن الفصل بين الاثنين لأن الصين بدأت تلعب دورا في الشرق الأوسط وتتعامل مع الملفات الشائكة فيه، خاصة بعد الاتفاق الذي حدث في 10 مارس/آذار بين الرياض وطهران وبكين في عام 2023. ثانيا أن ما أظهرته حرب غزة وحرب أوكرانيا هو أن الشرق الأوسط لا يمكن تجاهله، حيث أثرت أحداث البحر الأحمر على العالم كله. أما السبب الثالث فهو أن إدارة بايدن اكتشفت أن السعودية مركز الثقل في المنطقة، وأي سياسة إقليمية، أو حتى دولية في المنطقة، يجب أن تكون السعودية جزءا منها، في حين وصفتها سابقا بأنها دولة مارقة، وعليه فإن عودة الولايات المتحدة الآن بهذا الزخم سببه هذه العوامل الثلاثة. فما هو الموقف السعودي في هذه النقطة.
يبدو أن الرياض باتت تُصنّف نفسها على أنها في منطقة الحياد الإيجابي، الذي يعني أن علاقاتها مع واشنطن ولندن وباريس وبروكسل مهمة، ولكن في الوقت نفسه علاقاتها مع بكين ونيودلهي وموسكو مهمة أيضا.
(القدس العربي)