لا شك في أن كل مراقب يستطيع أن يرى بوضوح شدة التعقيد الذي تتسم بها هذه الجولة المفتوحة من القتال في
غزة. وهذا التعقيد يفسر لماذا جاءت مبادرة المفاوضات الأخيرة من البيت الأبيض، ولم تأت من الشرق الأوسط. وعليه ينبغي أن نقرأها من السياق الأمريكي أكثر مما نقرأها من السياق الشرق أوسطي.
قد يقول قائل إن الإعلان جاء من الإدارة الأمريكية، لكن المقترحات جاءت من مصر وقطر وإسرائيل. أي أن الحل جاء من الشرق الأوسط. لكن يبدو أن الموضوع ليس كذلك، فالحل لم يأت من الشرق الأوسط، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى ممارسة الضغط السياسي اللازم لحمل أطراف الصراع على القبول بها، خاصة رئيس الوزراء الإسرائيلي
نتنياهو الذي يريد أن يمدد الحرب الى سبعة أشهر أخرى.
وعليه وفي ضوء قراءة بنود الإعلان يمكن القول بأن عليه لمسات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، أكثر من لمسة أي مسؤول إسرائيلي أو شرق أوسطي.
والسبب في ذلك يعود إلى أن الحتمية الانتخابية في الولايات المتحدة هي التي ضغطت فأنتجتها، فلو لم تكن هناك حسابات انتخابية، وخشية فريق بايدن على أنه يراهن بمستقبله السياسي، لما شهدنا هذه المبادرة الأمريكية، لذلك يبرز عامل التوقيت هنا.
كانت هناك عدة زيارات لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لم يرشح عنها أي جهد حقيقي لإيقاف العدوان الإسرائيلي
أيضا ما تمت ملاحظته أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول كانت هناك عدة زيارات لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لم يرشح عنها أي جهد حقيقي لإيقاف
العدوان الإسرائيلي، فكيف تتحول الآن وزارة الخارجية الأمريكية إلى راعية سلام، وتُشمّر واشنطن السياسية عن ذراعيها بكل قوتها، وتريد أن تفرض حلا؟ هذا دليل واضح على أن الضرورات الانتخابية هي ما يحرك هذه المبادرة. وهنا لا بد من القول إنه إذا وافقت حركة حماس على هذه المبادرة كمسار للمفاوضات فهي ستبقى رهينة بالموقف الإسرائيلي، الذي لا يبدي أية مؤشرات إيجابية إلى أن مجلس الحرب في حكومة نتنياهو سيقبل بها.
وعليه فإن هناك قراءة جديدة يجب الانتباه إليها وهي، أن استراتيجية نتنياهو تعوّل على أنه سيبقى في رئاسة الحكومة الإسرائيلية أطول من بقاء الرئيس الأمريكي بايدن في البيت الأبيض، أي أنه سيبقى يدير الصراع، ولا يريد أن يصل إلى تسوية، على أمل أن يحقق وعوده بعيدة المنال.
لكن هل هناك وجهة نظر أمريكية تتوقع أن يكون هنالك تغيير حكومي في إسرائيل؟ أو هل يمكن للولايات المتحدة أن تمارس ضغطا على نتنياهو للقبول بهذه المبادرة؟ وما نوعه؟
في الحقيقة يصعب تحديد إلى أين تتجه استراتيجية البيت الأبيض في هذه المرحلة، سواء باتجاه بقاء أو غياب نتنياهو من المشهد السياسي الإسرائيلي، لكن يمكن التساؤل هنا، هل هناك شخصية في الظل يمكن أن تعوّل عليها واشنطن في هذه المرحلة؟
صحيح لوحظ أن هناك بعض الشخصيات الإسرائيلية التي زارت واشنطن واجتمعت مع مستشار الأمن القومي، وبدا وكأن واشنطن تسحب البساط من تحت أقدام نتنياهو، لكن حقيقة الأمر هناك أكثر من مفارقة في هذا الموقف، فمثلا منذ ثلاثة أشهر تقريبا كان البيت الأبيض ووزارة الخارجية يتحفظان بكل العبارات الممكنة ويعبران عن الخشية من الاجتياح الإسرائيلي لرفح، لكن قبل فترة قصيرة قلل وخفف المتحدث بأسم مجلس الأمن القومي من وقع ما تفعله إسرائيل في رفح حاليا، وكأنّ هناك خطوة إلى الوراء يسحبها البيت الأبيض، ولا يعتبر ما يحدث بمثابة عملية عسكرية، كان إلى قبل فترة قليلة يتحفظ عليها.
موقف أمريكي متحوّر باستمرار، ولا يكاد يستقر على خطوط حمر
إذن كل هذا يشير إلى موقف أمريكي متحوّر باستمرار، ولا يكاد يستقر على خطوط حمر، ولو كان غير ذلك لوجدنا أن الرئيس بايدن الذي أعلن شخصيا المبادرة الأخيرة يذهب إلى مجلس الأمن بمبادرته، لكنه لم يفعل ذلك لأنه يريد الإبقاء على الأمور بيده، وليس عبر المؤسسة الدولية. كما كان بإمكانه أن يساوم نتنياهو بين إيقاف الحرب، أو قطع المساعدات العسكرية وصفقات السلاح عن إسرائيل، إذن يمكن القول إن بايدن لم يصل بعد إلى هذا الحد، وعليه ينبغي عدم قراءة الكثير في موقف أعلنه هو في بروتوكول رسمي من داخل البيت الأبيض، لكن هناك معادلة أن تُترجم الأقوال إلى أفعال.
بمعنى أن يرسل بلينكن أو غيره، إلى تل أبيب لإقناع نتنياهو بأن عليه هذه المرة أن ينصت، لأن المسألة لم تعد تحرج إسرائيل وحسب، بل تحرج الحزب الديمقراطي ومرشحه بايدن، ناهيك عن كل الحكومة الأمريكية في هذه المرحلة، لذلك هي حتمية انتخابية أكثر منها مبادرة سلم.
طبعا هنا بايدن يعلم حقيقة أن رسالته ليست موجهة إلى نتنياهو، لأنه يعلم موقف هذا سلفا، وهو التعنت على أساس أنه سوف يمضي قدما في الحرب إلى نهاية العام، لكن بايدن يوجه حديثه إلى بقية النخبة السياسية والرأي العام الإسرائيلي بأنه يريد الحل، ويريد إنقاذ إسرائيل وإنقاذ الموقف الأمريكي وسمعة أمريكا في المنطقة.
فهو على الأقل يبدي الآن أن لديه رؤية جديدة إلى المخرج السلمي لهذه الحرب وهو مخرج المفاوضات، هو أيضا يورط نتنياهو بشكل غير مباشر في أنه أمام كل العروض يظل نتنياهو هو ذلك الرأس المُعسكر حتى النخاع، الذي لا يريد أن يدخل في مفاوضات، بالتالي هذه مسألة تسجيل موقف أمام الرأي العام الدولي والإسرائيلي أكثر من التعويل على أن نتنياهو سيتعاون إيجابيا مع مسلسل المفاوضات المقترح، لذلك نجد هذه أول مرة في الأدبيات الأمريكية عبارة وقف إطلاق النار وليس هدنة كما عهدناها سابقا على لسان وزير الخارجية بلينكن خلال جولاته المكوكية السبع في الشرق الأوسط.
تنفيذ المبادرة التي أعلن عنها بايدن ستقود إلى تداعيات سياسية كبيرة ليست في صالح القضية الفلسطينية
لا شك في أن تنفيذ المبادرة التي أعلن عنها بايدن ستقود إلى تداعيات سياسية كبيرة ليست في صالح القضية الفلسطينية، حيث إنها ستقود إلى نهاية سلطة حماس في قطاع غزة، وستعطي إسرائيل الحق في ملاحقة حماس أمنيا في القطاع وخارجه، كذلك ستقود إلى تطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وبدء مسار اليوم التالي للحرب في غزة، من دون الحديث عن بدء مسار إقامة الدولة الفلسطينية.
إن بايدن الذي يواجه ضغوطا داخلية وخارجية معروفة، بسبب دعمه لإسرائيل أراد الضغط على حكومة نتنياهو للموافقة على المقترح، مبررا ذلك بأن حماس لم تعد تشكل خطرا على إسرائيل، ما يعني تحقيق أهداف إسرائيل المعلنة في الحرب على غزة.
كما يسعى من جهة ثانية لكسب أصوات الناخبين المعارضين للحرب، وفي مقدمتهم أصوات المسلمين الذي رجّحوا كفته في انتخابات 2020 بفارق بسيط. أكثر من ذلك هو يريد التركيز على قضايا أكثر أهمية وخطورة من حرب غزة، وهي تقدم القوات الروسية في أوكرانيا، ومواجهة ما يُعرف بمخططات الصين في المحيط الهادئ وبحر الصين
القدس العربي