في خضم
أزمات اقتصادية متلاحقة وتحديات تنموية
معقدة، وصلت
ديون مصر إلى رقم تاريخي يبلغ 16 تريليون جنيه. هذا الرقم الضخم لا
يعكس فقط حجم الاقتراض المستمر، بل يعكس أيضا مدى تأثير هذه الديون على الاقتصاد
الوطني وقدرته على النمو والتعافي.
وكشفت لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان المصري أن
إجمالي ديون الخارجية والداخلية بلغ 16 تريليون جنيه، حوالي 340 مليار دولار،
منها 168 مليار دولار ديونا أجنبية وتعادل حوالي 96 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي
المتوقّع البالغ 17 تريليون جنيه (حوالي 360 مليار دولار).
وفي وقت سابق، قال وزير المالية، محمد معيط، إن
الحكومة حددت سقف دين الحكومة العامة وهي أجهزة الموازنة والهيئات العامة
الاقتصادية ليكون 16.4 تريليون جنيه بنسبة 96.4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي،
بحسب بيان وزارة المالية.
تتزايد التساؤلات حول كيفية تأثير هذا الحجم
الهائل من الديون على قدرة مصر على تنفيذ مشاريع تنموية جديدة وتحقيق الاستقرار
الاقتصادي المطلوب. فمن تكبيل السيولة النقدية إلى التأثير السلبي على التصنيف
الائتماني للبلاد، تشكل هذه الديون تحديا حقيقيا أمام تحقيق الأهداف الاقتصادية
والتنموية.
وأقر البرلمان المصري الموازنة الجديدة للعام
المالي المقبل 2024/2025، وذلك بعجز يتجاوز الـ26 مليار دولار، وسط انتقادات حادة
بأنها لا تلبي احتياجات المواطنين المصريين؛ وانخفاض مخصصات الإنفاق على التعليم
والصحة وتحسين مستويات دخول الفئات الأكثر احتياجا.
علاقة عكسية.. الديون ضد الإنفاق
هذه الديون التاريخية، بحسب محللين وخبراء
اقتصاد، تفرض قيودا على السياسة المالية وتحد من قدرة الحكومة على الاستثمار في
البنية التحتية والخدمات الأساسية، مما يضع الاقتصاد المصري في دائرة مفرغة من
الأزمات والضغوط المالية.
يقول الباحث الاقتصادي وخبير أسواق المال، أحمد
قطب، إن "أي متابع قريب للاقتصاد المصري سيرى العلاقه العكسيه بين ارتفاع حجم
الدين وفوائده المتصاعدة وبين انخفاض بنود الإنفاق الأخرى في الميزانية من الدعم
والصحة والتعليم".
وأضاف لـ"عربي21": "لذلك فإنه رغم
الارتفاع التاريخي في حجم الموازنة العامة وارتفاع الإيرادات إلى أرقام تاريخية فإن هذه الأرقام تصب فى بنود الإنفاق على سداد الدين وفوائده وتلجأ الحكومة
لتدبير الدين من خلال تخفيض البنود الاستراتيجية في الموازنة وزيادة الضرائب على
المواطن والشركات وذلك واضح في إجراءات رفع الدعم عن رغيف الخبز الذى لم يمسه أي
إصلاح اقتصادي في آخر 30 عاما".
وتابع قطب: "من الواضح أن الحكومة تسير
قدما في خطة التخلي عن دورها الاقتصادي عن رعاية المواطن لصالح القطاع الخاص وأن
ما حدث من قرارات رفع الدعم الأخير هو ليس النهاية بل هو مقدمة لقرارات اقتصادية
أكثر قسوة ستزيد من معاناة المواطن المصري الذي سيدفع فاتورة الدين الحكومي بمفرده
في النهاية".
موازنة ضخمة تصب في صالح المقرضين
وستضطر مصر إلى تخصيص نصف حصيلة برنامج بيع
الشركات الحكومية لسداد الديون، بحسب رئيس لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان، فخري
الفقي، مشيرا إلى أن البرنامج مخطط له على أربع سنوات تحقيق 10 مليارات دولار سنويا،
بإجمالي 40 مليار دولار،
وعليها سداد 21 مليار دولار ديون خارجية في العام المالي المقبل.
إلى جانب سداد الديون قدّرت الحكومة العجز في
الموازنة العامة للدولة بواقع 1.2 تريليون جنيه (25.5 مليار دولار) وهو ما يعادل 7.3
بالمئة من إجمالي الناتج المحلي المتوقّع. وتخطط الحكومة لاقتراض 2.85 تريليون
جنيه (61 مليار دولار) في العام المالي الجديد لتلبية التزاماتها ليُشكّل الاقتراض
51.4 بالمئة من موارد الموازنة الجديدة.
وتشير مؤشرات الموازنة العامة للدولة إلى أن
إجمالي الإيرادات يصل إلى 2.6 تريليون جنيه (55.7 مليار دولار)، يأتي معظمها من
الإيرادات الضريبية، والمنح الخارجية والمحلية وإجمالي المصروفات نحو 3.9 تريليون
جنيه (82.1 مليار دولار) ، في حين تستهدف الموازنة جمع ضرائب بقيمة 2.2 تريليون
جنيه (42.9 مليار دولار) بنسبة زيادة 32 بالمئة عن المستهدفة هذا العام.
كيف يكبل حجم الديون التاريخية قدرة مصر على
النمو والخروج من الأزمة؟
وحذر عضو اللجنة الاقتصادية لحزب التجمع هاني
الحسيني، من أثر الديون على قدرة مصر في الخروج من أزماتها الممتدة منذ عقود،
قائلا: "هذا الدين العام تضاعف بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. أسبابه
تعود إلى الإنفاق الكبير على البنية التحتية من خلال الاقتراض وتجاهل مسالة
الأولويات في الإنفاق على التعليم والصحة وزيادة الإنتاج والتوسع في إقامة
المشروعات التي تحتاجها البلاد".
ووصف في حديثه لـ"عربي21" قرارات
الاقتراض بأنها "قرارات سياسية أو سيادية أكثر منها قرارات حكومية أو وزارية
نابعة عن رؤية وخطط ودراسة جدوى، صانع السياسات الاقتصادية والمالية في البلاد هو
المسؤول عن مثل هذه القرارات، رئيس الدولة، والذي لديه توجهات نحو إقامة مشروعات
قومية كبرى نتفق معها ولكن ليس في هذه المرحلة التي كنا نعاني فيها من أوضاع
اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية في غاية الصعوبة".
وأوضح الحسيني أن "قطاعات مهمة مثل الصحة
والتعليم والصناعة لم تستفيد من حجم الدين الكبير، كما أن مصاريف تلك القطاعات من
موازنة الدولة العامة التي تدبرها من خلال الاقتراض حيث لا تملك الدولة سوى التحكم
في ثلث الموازنة، وسياسة التمويل في مصر ليست موجهة بشكل رئيسي للإنتاج إنما
للقطاع العقاري والبنية التحتية بشكل أكبر، والديون تولد فوائد كبيرة ويكبل الدولة
في تحقيق نمو في الناتج المحلي وتخطي حاجز 8 بالمئة على الأقل للتغلب على الفوائد
والخروج من الأزمة".
وانتقد الخبير الاقتصادي استمرار سياسة
الاقتراض في الموازنة الجديدة: "لم تكشف لنا الموازنة الجديدة عن أي تطور في
إصلاح الاقتصاد المصري، ما يحدث هو تجديد الديون بديون أخرى وبالتالي يزيد حجم
الدين وتزيد الفوائد، أما بخصوص تقليل نسبة الدين إلى الناتج المحلي هي مجرد
حسابات يمكن هندستها على طريقة الحكومة المعتادة ولا تمت للواقع بصلة".
ورأى الحسيني أن "المواطن هو الجسر الذي
ستمر عليه جميع قرارات ما يسمى الإصلاح الاقتصادي، وستكون الفترة المقبلة حبلى
بالقرارات الاقتصادية المؤلمة التي من شأنها زيادة الأعباء على المواطنين وهو ما
نراه بشكل روتيني في زيادة أسعار جميع الخدمات بدعوى تحسين قطاعات مثل الصحة
والتعليم وهي في الأصل تعاني الأمرّين".