حار
دليل أهل
السودان، الذين حسبوا أن بلادهم انتقلت إلى حقبة جديدة، تفضي إلى حكم
ديمقراطي تعددي، بعد إزاحة عمر البشير وأقطاب حكمه من كراسي السلطة في نيسان/ أبريل
2019، فإذا بهم اليوم مبعثرون في كل واد نشدانا للأمان، بعد أن اختلف شريكا
السلطة: عبد الفتاح
البرهان، ومحمد حمدان دقلو (
حميدتي)، اللذان تصدرا المشهد
السياسي في السودان، وجلسا على أعلى كرسيين في قصر الرئاسة كحليفين منذ رحيل
البشير، وصار البرهان رئيس المجلس السيادي (رئاسة الدولة) وقائدا عاما للجيش،
بينما احتفظ حميدتي بمنصبه الأصلي (قائد قوات
الدعم السريع)، وصار نائبا للبرهان
في مجلس السيادة. ثم تآمر الاثنان على المدنيين الذين كانت الحكومة التنفيذية من
نصيبهم، وأطاحوا بهم في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، واتضح أن التحالف بينهما كان
من قبيل زواج المتعة، ولكن فضّه لم يكن بمعروف، بل فتحا النيران بعضهما على بعض،
في 15 نيسان/ أبريل من العام الماضي، ثم امتدت ألسنة النيران إلى معظم أرجاء
السودان.
وكان
من الطبيعي والبدهي أن يقف غالبية أهل السودان إلى جانب جيشهم الوطني، في مواجهة
قوات الدعم السريع، التي كانت منذ تأسيسها سيئة السمعة والسيرة والسلوك، والتي
عنى وجودها كـ"جيش مواز" تحت إمرة عائلة دقلو، أنها تشكل خطرا وجوديا
على الوطن، فإذا بهم يفاجؤون بالجيش يندحر في المعركة تلو الأخرى، وبقوات الدعم
السريع تسيطر على نحو نصف مساحة السودان.
كان من الطبيعي والبدهي أن يقف غالبية أهل السودان إلى جانب جيشهم الوطني، في مواجهة قوات الدعم السريع، التي كانت منذ تأسيسها سيئة السمعة والسيرة والسلوك، والتي عنى وجودها كـ"جيش مواز" تحت إمرة عائلة دقلو، أنها تشكل خطرا وجوديا على الوطن، فإذا بهم يفاجؤون بالجيش يندحر.
أسفرت
الحرب التي اشتعل فتيلها العام الماضي، عن دمار مدن العاصمة السودانية الثلاث
(الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري)، ونزوح الملايين من سكانها إلى الأرياف ودول
الجوار، وكانت الفاجعة الأكبر أن قائد الجيش (البرهان) ومساعديه الثلاثة على قيادة
الجيش كانوا من النازحين، إذ طلبوا اللجوء في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر، بينما
قوات حميدتي تحتل ولاية الجزيرة الواقعة جنوب وجنوب شرقي الخرطوم، وهي ذات كثافة
سكانية عالية وإمكانات اقتصادية هائلة، وتمثلت فاجعة الفواجع في أن الجيش انسحب
منها دون أن يقاتل الغزاة.
وقبل
أشهر، تناقلت مصادر أخبار ثقات أن المخابرات الأوكرانية أتت ببعض ضباطها إلى أم
درمان، مزودين بطائرات درون (مسيَّرة)، ووجهت ضربات مؤلمة إلى تجمعات قوات الدعم
السريع في شمال المدينة، ولم يكن ذلك حبا للسودان أو جيش السودان، بل نكاية بروسيا
التي تناصر قوات فاغنر التابعة لها قوات الدعم السريع، وتمدها بالسلاح والمؤن عبر أفريقيا
الوسطى، فإذا بنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، في أواخر نيسان/ أبريل
المنصرم، يحط رحله في بورتسودان ضيفا على البرهان، ويفوز من الأخير بوعد قاطع
بالسماح لروسيا بإقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر. وقبلها كان البرهان قد أعاد
العلاقات مع طهران، وعاد منها بعدد من المسيرات، وبهذا يكون البرهان قد أعطى
الذريعة لواشنطن كي تتسلل إلى المشهد السوداني بعنف، فيصبح السودان مسرحا لمباراة
خشنة بين موسكو وواشنطن.
والسودانيون
في حيرة من أمر وسائل الإعلام عموما، والأجنبية على وجه الخصوص، إذ انتبهوا إلى أن
الحرب التي فككت أوصال بلدهم، لا تحظى بمعشار ما تحظى به الحرب في أوكرانيا وغزة،
ولا عليهم أن حرب أوكرانيا هي في حقيقة الأمر مواجهة بين حلف الأطلسي وروسيا، وأن
حرب غزة هي عدوان من قوة استعمارية (إسرائيل)، مسنودة بأكبر قوة عسكرية في العالم
(الولايات المتحدة)، على رقعة من الأرض أقل مساحة من مدينة نيويورك، وعديد سكانها
نحو عُشْر عديد سكان نيويورك.
يعيش السودانيون في حالة من الارتباك العقلي والعاطفي؛ جيشنا الوطني عاجز عن دحر كيان يسميه مليشيا، وقادة ما يسمى بالمليشيا يعدون الشعب بأنهم بعد دحر الجيش سيقيمون حكما مدنيا خالصا، والإسلاميون الذين انتهى سلطانهم الذي دام ثلاثين سنة، يريدون للحرب أن تستمر بأي ثمن، حتى يتم القضاء على قوات الدعم السريع التي خانتهم، وقد أنشؤوها ورعوها، ولكن مجريات الحرب جعلتهم يتشككون في كفاءة البرهان كقائد عسكري، بل منهم من يرى أنه متواطئ مع الدعم السريع.
وغزة
تجد التعاطف الإعلامي والشعبي في كل أرجاء العالم؛ لأنها تواجه عدوا خارجيا، وما
زالت صامدة ببسالة استحقت الإشادة، بينما الحرب في السودان بين سودانيين، وفشل
البرهان وحكومة بورتسودان في إقناع العالم بأن قوات الدعم السريع مليشيا متمردة،
فما من مليشيا تتشكل بقرار برلمان حكومي (حكومة حزب المؤتمر الوطني برئاسة عمر
البشير)، وما من مليشيا يتقاضى أفرادها رواتب من خزينة الحكومة، وتنفق الحكومة على
تسليحهاـ وكيف يستقيم أن يكون حميدتي قائد مليشيا متمردة، وقد كان الرجل الثاني في
حكومة السودان ونائبا للبرهان طوال أربع سنوات، وكان جميع ضباط الجيش السوداني
يؤدون له التحية العسكرية، كلما مر بهم أو مروا به؟
وهكذا، يعيش السودانيون في حالة من الارتباك العقلي والعاطفي؛ جيشنا الوطني عاجز عن دحر
كيان يسميه مليشيا، وقادة ما يسمى بالمليشيا يعدون الشعب بأنهم بعد دحر الجيش
سيقيمون حكما مدنيا خالصا، والإسلاميون الذين انتهى سلطانهم الذي دام ثلاثين سنة،
يريدون للحرب أن تستمر بأي ثمن، حتى يتم القضاء على قوات الدعم السريع التي خانتهم،
وقد أنشؤوها ورعوها، ولكن مجريات الحرب جعلتهم يتشككون في كفاءة البرهان كقائد
عسكري، بل منهم من يرى أنه متواطئ مع الدعم السريع، وأنه في منعطف ما سيفاوض
حميدتي ليتقاسما السلطة سويا كما كان الحال قبل الحرب.
وهكذا، يجد المواطن السوداني نفسه في حيص بيص، وهو لا يفهم كيف حدث ما حدث ولماذا، ومن
يصدق: شهاب الدين أم أخاه؟