صدق من قال إن هذه أول حرب في التاريخ تكون نتيجتها
معروفة قبل نهايتها، إذ مرت وعبرت في سيرها، نورا ونارا ودما وعرقا ودموعا على "محطات
الهزائم" كلها، وطهرتها تطهيرا.. ليست هزائم الأمس القريب فقط، بل هزائم قرن بأكمله،
وأكثر! هزائمنا عندنا، وهزائمنا عندهم، وهزائمنا على أعتاب كل باب.
منذ بدايات القرن التاسع عشر والهزائم تلو الهزائم تحط
على صدر الأمة حطا ثقيلا موجعا، ليس هذا بالأمر العادي لا بد أن هناك لغزا غامضا
يكتنف الأمر.
تقول الحكاية إن الإصلاحيين لم يتوقفوا كثيرا عند معاهدة
لندن 1840م والتي أجبرت محمد علىَ باشا (ت: 1849م) على التراجع عن مشروعه الواعد
بإحياء الإمبراطورية العثمانية من داخلها، قبل أن تنهار وينهار معها ذلك الرابط التاريخي
الوطيد بين أطراف عالم الإسلام، وكانت أوروبا كلها تعد الوقت دقائق وساعات حتى يتم
هذا الانهيار تلقائيا وتنقض عليها في وقته المعلوم.
* * *
لم يقف التاريخ كما ينبغي له عند هذا "المفصل التاريخي"
الهام، وسيقول لنا الأديب الفرنسى جيلبرت سينويه (77 سنة) في مقدمة كتابه المهم "الفرعون
الأخير.. محمد علي"، ترجمة الأستاذ عبد السلام المودني، سطرا بالغ الأهمية
وضعه الكاتب على لسان الباشا الذي قال: لن أتحمل أبدا ان تصير مصر إنجليزية..
وتركيا روسية..!
* * *
الجميع تناول التجربة من أضيق زواياها.. الطموح الشخصي،
الاستبداد، الاستعانة بالغرب (فرنسا)، تقسيم التعليم ديني ومدني.. الخ.. وكلها
موضوعات مهمة، لكنها قابلة للاستعادة والإصلاح أمام الكارثة التي أتت بعد 1840م
ومدت الطريق طويلا ممهدا للهدف الأسمى في العقل الحضاري الغربي، "إنهاء
الإمبراطورية العثمانية"، وما تحمله في أثمن وأثقل وأهم معنى لوجودها: "الرابط
المقدس لعالم الإسلام".
لم يتأخر الوقت طويلا، جاءت الحرب العالمية الأولى، وككل
الحروب الكبرى، جاء معها ذلك الترتيب الدراماتيكي للواقع الجغرافي والتاريخي،
وتعديل الأوضاع وعكسها..
* * *
ليس هذا موضوعنا على أي حال.. محمد علي باشا كانت له
أخطاؤه بالطبع، وأخطرها بكل تأكيد كان إعلاء مفهوم الدولة الحديثة بكل حمولته
الغربية في أوروبا.. على مفهوم الأمة بكل حمولته الشرقية في "عالم الإسلام"..
وستكون هزيمة فرنسا في مصر (1801م)، وانتصار إنجلترا في مصر
(1882م)، أقوى شاهد على هذا الخطأ الفادح والذي سيستمر طويلا.. ليس فقط حتى دخول
اللورد اللنبي القدس (1917م) وبداية مشروع "الدولة الصهيونية"، الوكيل الوظيفي
لفرنسا وبريطانيا وأمريكا؛ إذ سيصدر "وعد بلفور" في نفس السنة، ولكن
أيضا لأن مفهوم "الدولة الحديثة" بالميراث الأوروبي بقى طويلا طويلا في
وعي الإصلاحيين الذين ارتكزوا عليه بقوة في أديباتهم الفكرية والسياسية، مخالفين
لأدبيات "الذات" الحضارية والتاريخية. وللأسف ورغم كل الخسائر الثقيلة،
لازالوا إلى الأن يغوصون في وحل هذا الخطأ، وستتوالى الهزائم (للدولة والأمة) طولا
وعرضا، باتساع الزمان والمكان في الشرق الحزين، نتيجة لهذا الخلل المثير.
* * *
لكن طوفان الأقصى ستعود بالأمة إلى الموضع والموقع
الصحيح في الواقع التاريخي الحديث للأمة.. وها هي
غزة بصمودها ورباطها تمثل عطاء
خالصا لمفهوم الأمة، وها هم أهل الوفاء كما هي عادتهم دائما في أوقات الخطر الصعب..
ليس فقط شعورا منهم بالخطر والتهديد، ولكن وهو الأهم شعورا منهم بصدق وعزم من قام
ونهض منهم، ودخل عليهم الباب، فلم يغدروا ولم يخذلوا ويتمردوا، حفظوا وصانوا..
وصبروا ورابطوا.. وقدموا للعالم أجمع النموذج الأمثل لمعنى الصبر والصمود والرباط،
كأقوى ظهير وحاضن للمقاومة.
* * *
بصبرهم وجَلَدهم ودمائهم وشهدائهم قام "أهل
الأنوار" في البلدات والمخيمات بطول وعرض القطاع وأعطوا فتيانهم، أعظم ما يعطى
من شعب لمقاومة، هي أصلا قبس من روحه، وقطعة من ذات نفسه وحَبة قلبه.. وقالوا لهم نحن
بإيماننا ورباطنا وثباتنا "أهل الصبر والسكينة".. ولن يعرف معنى "السكينة" إلا من تنفس هواء غزة
في هذه الأيام، وخطت أقدامه تراب غزة في هذه الأيام..
هذا هو الرعب كله الذي يملأ شرق الأرض وغربها، والجميع
يريد لهذه "الأنوار" أن تنطفئ سريعا سريعا، ويعود الشرق لتاريخه القديم
في اجترار الهزيمة تلو الهزيمة في استكانة ومذلة طالت وطال عارها.
* * *
فات الوقت.. "لقد هُزم الموساد، المنظمة الأكثر
تكتيكية والأكثر استعدادا وقدرة وغموضا والتي هزمت جميع أجهزة الاستخبارات في
الشرق الأوسط وحتى العالم، هُزمت للمرة الثالثة في 8 أشهر من قبل جهاز استخبارات
كتائب القسام".. هذا ما قاله رئيس الموساد السابق يوسي كوهين (63 سنة) تعليقا
على عملية أسر جنود إسرائيليين جدد في جباليا..
* * *
ورحم الله د. عبد الوهاب المسيري (ت: 2008م) الذي قال
لنا ذات يوم:
المقاومة أدركت أن الإعلام قوة ضخمة جدا ولا يمكن تجاهلها،
فالفضائيات تبث ما يحدث في نقطة ما في العالم إلى بقية أجزاء العالم.. مسألة
الصورة الإعلامية أصبحت مسألة مهمة للغاية، ولا سيما في حالة إسرائيل التي تستمد
قوتها وشرعيتها من صورة إعلامية كاذبة قامت بترويجها"، كما ذكر رحمه الله
رحمة واسعة، في الجزء الرابع من "الحوارات".
والعملية الأخيرة في جباليا ظهرت فيها هذه القوة على
كمالها وتمامها..
* * *
لكن الأكمل والأكمل هو هذا التجرد والصدق والإخلاص الذي
يتجاوز ما هو طبيعي في البشر.. وأتصور أن هذا هو ما يصح وصفه بـ"الشرط الإيماني"
فعلا.. وما كان فيض البركات من هذا الطوفان ليتحقق إلا بهذا الشرط.. شرط "ما
بأنفسهم..".
وستكون هذه المحطة من "محطات الهزائم" أروع
وأعظم تلك المحطات التاريخية التي مر عليها الطوفان، وطهرها من أسوأ ما فيها..
"التنافس والتحاسد بين الأنداد والقيادات)".
* * *
اقترب الصبح.. وستكون "طوفان الأقصى" مثالا
لما قاله الأديب اللبناني وديع سعادة (76 سنة) في وصفه بالغ الشعور والتأثير عن
العابر الغائب الذي يرجوه أن يعود:
مرت على الحدائق وصار فيها زهور، ومرت في الشوارع وصار
فيها ناس، ومرت في الليالي وصار فيها قمر، ومرت في النهارات وصار فيها شمس.
x.com/helhamamy