أفكَار

بيان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في ميزان القانون والسياسة

القرار "جاء مليئا بالعيوب القانونية التي تستبطن الانحياز الواضح ومحاولة خلط الأوراق لمساواة الضحية بالجلاد وتمييع مبدأ الإفلات من العقاب"- الجنائية الدولية
بعد طول انتظار، أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يوم 20 أيار/ مايو المنصرم بيانا يطلب فيه من الغرفة التمهيدية للمحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء دول الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو ويوآف جالانت، بالإضافة إلى ثلاثة من كبار قيادات حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وهم رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، ورئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار، ومحمد دياب إبراهيم المصري المعروف بمحمد الضيف، قائد المقاومة المسلحة المعروفة بكتائب عز الدين القسام.

وبغض النظر عن الاختلالات الجوهرية التي شابت هذا القرار الذي يساوي بين الضحية والجلاد، فإن إصدار مذكرات اعتقال في حق قادة دولة الاحتلال يعتبر في حد ذاته خروجا عن القواعد الضمنية التي تحكمت في سير هذه المحكمة المسيسة منذ اعتماد اتفاق روما سنة 1998 ودخوله حيز التنفيذ في سنة 2002، وهو الاتفاق الذي عارضته الولايات المتحدة الأمريكية حينها، كما عارضته دولة الاحتلال الإسرائيلي بسبب مضامين الاتفاق التي تعتبر الاستيطان جريمة حرب.

وينبغي التذكير بأنه خلال صياغة نظام روما الأساسي طالبت الولايات المتحدة بأن يكون عمل المحكمة خاضعا لسلطة مجلس الأمن الدولي الذي تحظى فيه بحق النقض (الفيتو)، غير أن مؤتمر روما رفض ذلك، كما سبق للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون أن بادر إلى التوقيع على نظام روما يوم 31 أيلول/ ديسمبر عام 2000، غير أن خلفه جورج بوش الابن ألغى ذلك التوقيع في أيار/ مايو عام 2001، ودشن حملة عالمية ضد المحكمة، انتهت بالفشل.
تبلورت قواعد ضمنية في عمل المحكمة تستثني متابعة المنتصرين في النزاعات المسلحة وتستهدف قادة دول الجنوب بالدرجة الأولى، ولذلك فإن إصدار مذكرات اعتقال في حق قادة دولة الاحتلال خلف زلزالا سياسيا داخل إسرائيل وحتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية

ومنذ ذلك الحين تبلورت قواعد ضمنية في عمل المحكمة تستثني متابعة المنتصرين في النزاعات المسلحة وتستهدف قادة دول الجنوب بالدرجة الأولى، ولذلك فإن إصدار مذكرات اعتقال في حق قادة دولة الاحتلال خلف زلزالا سياسيا داخل إسرائيل وحتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا أهمية التحليل والنقاش الذي ينبغي أن تخضع له هذه الخطوة..

خطوة اضطرارية لإنقاذ ما تبقى من سمعة العدالة الدولية ومواجهة الإفلات من العقاب..

يمكن اعتبار هذا القرار خطوة اضطرارية كانت ضرورية من أجل إعمال العدالة الجنائية الدولية ومواجهة الإفلات من العقاب في حق مجرمي الحرب الصهاينة، وما ارتكبوه من جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية لا زالت متواصلة فوق الأراضي الفلسطينية، ولا سيما في غزة المحاصرة.

إن كريم خان الذي تلكأ كثيرا في إصدار هذا القرار، وجد نفسه أمام عاصفة من المطالب الحقوقية والعرائض القانونية التي تقدم بها مئات المحامين من مختلف الدول، ولا سيما من البلدان الأوروبية، وهي المطالب التي كانت مدعومة بالعديد من المظاهرات التي شهدتها مختلف العواصم في العالم، خصوصا في أوروبا وفي معظم الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما على مستوى الجامعات، فكان مضطرا لإصدار هذا البيان الذي "يجعل كل من بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء ويوآف غالانت وزير الدفاع، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التالية التي ارتُكبت على أراضي دولة فلسطين (في قطاع غزة) اعتبارا من الثامن من أكتوبر 2023، وبصفة خاصة، تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب، والقتل العمد، والإبادة و/أو القتل العمد بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع، باعتباره جريمة ضد الإنسانية؛ والاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، وأفعال لاإنسانية أخرى باعتبارها جرائم ضد الإنسانية".

طبعا لم يكن من السهل أن يقدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على هذا الطلب، بالنظر للاعتبارات السياسية التي تحيط بعمل هذه المحكمة منذ اليوم الأول، فدولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية ليستا عضوتين في المحكمة الجنائية الدولية، ورفضتا التوقيع على نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الذي دخل حيز التنفيذ يوم 1 تموز/ يوليو 2002، وهو النظام الذي يعطي للمحكمة اختصاصا تلقائيا في الجرائم المرتكبة على أراضي دولة صدقت على المعاهدة؛ أو عندما يحيل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قضية إليها. وبناء عليه تتمتع المحكمة بالولاية القضائية على غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية، بعد أن وافقت السلطة الفلسطينية رسميا على الالتزام بالمبادئ التأسيسية للمحكمة في عام 2015. ومن هنا أهمية الخطوة التي أقدم عليها الفلسطينيون بالمصادقة على ميثاق روما، الذي يجعل المحكمة الجنائية الدولية مختصة في ملاحقة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.

زلزال سياسي داخل الكيان المحتل رغم الانحياز الواضح في مضامين القرار..

لندرك حجم الزلزال الذي أحدثه هذا القرار داخل الكيان المحتل، علينا أن نتذكر تصريحات نتنياهو عندما تسربت معلومات تفيد بأن المدعي العام للمحكمة يدرس إمكانية طلب إصدار أوامر اعتقال ضد المتورطين في جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية في غزة، حينها قال: "إن أي أوامر اعتقال تصدرها الجنائية الدولية ضد كبار المسؤولين الحكوميين والعسكريين الإسرائيليين ستكون بمثابة فضيحة ذات أبعاد تاريخية؛ لأن إسرائيل "لديها نظام قانوني مستقل تحقق بدقة في جميع انتهاكات القانون". وقد اضطر كريم خان دفاعا عن وضعه الاعتباري كمدعي العام للمحكمة أن يرد على هذه التصريحات العلنية بقوله: "لا أحد فوق القانون".

فلأول مرة يتم توجيه لائحة من التهم الجنائية الثقيلة لقادة دولة الاحتلال، بحيث شملت التهم الموجهة لنتنياهو وغالانت "التسبب في الإبادة، والتسبب في المجاعة كوسيلة من وسائل الحرب، بما في ذلك منع إمدادات الإغاثة الإنسانية، واستهداف المدنيين عمدا في الصراع".

وفي هذا السياق، ولفهم تأثير هذا القرار على صورة دولة الاحتلال في العالم، لا بد من الاطلاع على التحقيق الإعلامي الذي كشفت عنه صحيفة الغارديان البريطانية يوم 28 أيار/ مايو المنصرم، حيث كشفت الصحيفة أن يوسي كوهين الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي وأحد أكبر القيادات الأمنية المقربة من نتنياهو قاد شخصيا عمليات الموساد الموجهة ضد المحكمة الدولية وحاول تجنيد المدعية العامة السابقة "فاتو بنسودة" التي بدورها أطلعت مجموعة صغيرة من كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية على محاولات يوسي كوهين التأثير عليها، بحيث كشفت الصحيفة أن يوسي كوهين قال لفاتو بنسودة: "يجب عليك مساعدتنا وسنعتني بك ونوفّر لك ما تريدين، أنتِ لا تريدين التورط في أشياء يمكن أن تعرض أمنكِ وأمن عائلتك للخطر"!

وكشف التحقيق أن يوسي كوهي عرض على السيدة فاتو بنسودة في أحد اللقاءات التي جمعته بها في أحد فنادق نيويورك -بوساطة من رئيس الكونغو جوزيف كابيلا- صورا خاصة بزوجها الذي كان يشتغل في السلك الديبلوماسي وقال لها بلغة التهديد: "إن إقدامك على فتح تحقيق دولي يضر بإسرائيل سيدمر مسيرتك المهنية أنت وعائلتك"! تصوروا إلى أي مدى يمكن أن تصل درجة الاستهتار بالعدالة الدولية واحتقار القانون الدولي..

وبدوره، لم يتحمل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية بيان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وقاد حملة دعائية قوية داخل الكونغريس الأمريكي، توجت بتصويت مجلس النواب الأمريكي لصالح فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وذلك في محاولة للضغط على المحكمة والحيلولة دون إصدار مذكرات اعتقال بحق القادة الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
رغم أهمية هذا القرار المحرج للصهاينة، فقد جاء مليئا بالعيوب القانونية التي تستبطن الانحياز الواضح ومحاولة خلط الأوراق لمساواة الضحية بالجلاد وتمييع مبدأ الإفلات من العقاب، مما يعكس حجم التأثير السياسي الذي تخضع له المحكمة
وجاء التصويت بأغلبية 247 صوتا مقابل 155، حيث صوت لصالحه كل الجمهوريين تقريبا وبضع عشرات من الديمقراطيين، وهي سابقة تاريخية توضح بالملموس كيف ينظر صانع القرار الأمريكي لمؤسسات العدالة الدولية، كما توضح حجم التغلغل الصهيوني داخل المؤسسات الأمريكية.

ورغم رفض البيت الأبيض لما سماه بـ"الاندفاع المتهور للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لطلب أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار"، فمن غير المرجح أن يحصل مشروع قانون العقوبات على تصويت في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديموقراطيون، خصوصا أن إدارة بايدن عبرت عن معارضتها لمشروع القانون الذي يفرض عقوبات على المحكمة، وهو الموقف الذي دفع نتنياهو للتعبير عن "دهشته وخيبة أمله" من إدارة بايدن التي لم تدعم مشروع قانون العقوبات..

لكن رغم أهمية هذا القرار المحرج للصهاينة، فقد جاء مليئا بالعيوب القانونية التي تستبطن الانحياز الواضح ومحاولة خلط الأوراق لمساواة الضحية بالجلاد وتمييع مبدأ الإفلات من العقاب، مما يعكس حجم التأثير السياسي الذي تخضع له المحكمة.

تمييع مبدأ عدم الإفلات من العقاب ومساواة الضحية بالجلاد..

لقد أصر المدعي العام على إقحام ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في هذا البيان، وجاءت التهم الموجهة إلى قادة المقاومة لتشمل "الإبادة والقتل واحتجاز رهائن والاغتصاب والاعتداء الجنسي أثناء الاحتجاز"، وهي تهم مستغربة حقيقة عندما تساوي بين الضحية والجلاد من جهة، وحينما تنبني من جهة أخرى على ادعاءات سبق أن روجتها آلة الدعاية الصهيونية في مختلف وسائل الإعلام العالمية بعد يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وثبت زيفها وكذبها، وتراجعت عنها العديد من الدوائر الإعلامية والسياسية بما فيها الإدارة الأمريكية، وهي اتهامات مستغربة من جهة ثالثة حينما تتجاهل الجريمة الأصلية المتمثلة في الاحتلال، وتتجاهل معها المواثيق الدولية التي تقر بالحقوق المشروعة للشعوب المحتلة في مقاومة الاحتلال، وتعمد إلى توجيه اتهامات لا دليل عليها ضد قيادات المقاومة. ومن المستغرب حقا إقحام اسم إسماعيل هنية في هذه المذكرة وهو رئيس المكتب السياسي للحركة المتواجد خارج مناطق النزاع المسلح، والذي لا يتحمل بحكم موقعه التنظيمي أي مسؤولية قانونية مباشرة عما يجري داخل مناطق النزاع، في الوقت الذي تجاهلت مذكرة المدعي العام قيادات إسرائيلية تتحمل مسؤوليات سياسية وعسكرية مباشرة عن جرائم الإبادة الجماعية والحصار والتجويع المستمرة في حق الشعب الفلسطيني، مثل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير المعروفين بتصريحاتهما التحريضية ضد الفلسطينيين والمطالبين بالتهجير القسري لسكان غزة، ووزير التراث عميحاي إلياهو الذي صرح بأن "إلقاء قنبلة نووية على غزة هو أحد الخيارات الممكنة للقضاء على حماس" مضيفا بأن "قطاع غزة يجب ألا يبقى على وجه الأرض"..

والخلاصة..

لقد كان من النتائج المباشرة لأسلوب القتل المنهجي والإبادة الجماعية المتواصلة تجاه الفلسطينيين انكشاف دولة الاحتلال أمام العدالة الدولية، فبعد القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية يوم الجمعة 26 كانون الثاني/ يناير والذي بموجبه قبلت المحكمة النظر في القضية المرفوعة إليها من طرف دولة جنوب أفريقيا مع رفض الطلب الإسرائيلي بعدم النظر في الدعوى المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية، جاء طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يوم 20 أيار/ مايو المنصرم بإصدار أوامر اعتقال في حق القادة الصهاينة، وهو ما يعتبر انتصارا جديدا للقضية الفلسطينية وخسارة استراتيجية جديدة تكبدتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في الساحة القانونية،
كان من النتائج المباشرة لأسلوب القتل المنهجي والإبادة الجماعية المتواصلة تجاه الفلسطينيين انكشاف دولة الاحتلال أمام العدالة الدولية
وأظهرت صورتها الحقيقية ككيان استيطاني لا يؤمن بالقانون الدولي ولا بالقانون الدولي الإنساني ولا يستطيع الخضوع لضوابطه، ولذلك فهو يجد نفسه "مضطرا" لخوض معركة وجودية، تقوم على نفي الآخر من أجل إثبات الذات، واعتماد أسلوب القتل اليومي كأسلوب وحيد لاستمرار دولة الاحتلال ككيان إحلالي ارتبطت نشأته أساسا بالعنف والتقتيل والإبادة الجماعية وتهجير السكان الأصليين.

هذه الحقيقة دفعت باحثا أمريكيا مرموقا من جامعة شيكاغو للقول بأن الهدف الحقيقي لما تقوم به إسرائيل في غزة هو التطهير العرقي باعتباره الطريقة الوحيدة التي تمكن إسرائيل من الخروج من نظام الحكم العنصري، أي بكل بساطة تطهير غزة وإفراغها من ساكنيها. فحسب جون ميشايمر، هذه هي الطريقة الوحيدة في نظر قادة الجيش الإسرائيلي لهزيمة حماس، فهم متأكدون من أنهم لا يستطيعون القضاء على حماس، ولكن إذا نجحوا في طرد جميع الفلسطينيين من غزة فسيحققون هدفين: التخلص من حماس ثم حل مشكلة الفصل العنصري.

لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل باعتراف قادة الصهاينة أنفسهم، وهو ما يعني نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة.. مرحلة التحرير الكامل.. وإن تحريرها كلها ممكن بإذن الله.