قضى عدد من الحجاج
المصريين نحبهم، وقد وصل عددهم إلى ألف حاج أو يزيد،
نسأل الله تعالى لهم أن يُبعثوا ملبين كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم،
عمن يلقى ربه وهو بملابس إحرامه، وفي مناسك
الحج، ولكن ظل السؤال الأبرز في الحدث:
من المسؤول عن هذا العدد الذي توفي؟
كعادة الإعلام المدجن في بلاط السلطة، رمى التهمة كلها
على الحجاج أنفسهم، مدعيا أن هذه
الوفيات حدثت فيمن حجوا مخالفين لشروط الحج
التنظيمية؛ التي وضعتها المملكة العربية
السعودية، وكان من الممكن أن ينطلي هذا
الكلام على الناس لو لم يمت حُجاج ممن ذهبوا وفقا للشروط، ولكن الكلام أبرز مدى
السقوط الأخلاقي لهذا الإعلام، إذ إنه لم يتعامل مع جلال الموت وهيبته بما يليق،
بل تعامل مع الأرقام والأوراق، وكأن أرواح الناس تحولت لمجرد أوراق رسمية، وبيانات
رسمية، تريد رفع التهمة عن كاهل السلطة المصرية.
إن المنصف في هذه المسألة سيجد أن المسؤولية تتجه إلى ثلاث
جهات؛ الجهة الأولى: هي السلطة المصرية نفسها، فإنها لم تتعامل مع الأزمة بشكل
يليق بكرامة المواطن المصري، بغض النظر عن كيفية ذهاب هؤلاء الناس بموافقة الشروط
أو مخالفتها، فهم في النهاية مواطنون مصريون، لقوا حتفهم خلال أداء مناسك فريضة من
أشرف ما يلقى الإنسان ربه عليه، ولم يموتوا في موقع جريمة، ولا مزمعين ارتكاب جرم
قانوني أو شرعي.
إذا كنا لا نوافق الناس على مخالفة القوانين المنظمة للحج، لكن من تعرض لمشكلة صحية أو وفاة ليس مجرما، فيقوم الإعلام والسلطة والجميع بسلخه، فهذا ما لا يليق بسلوك الإنسان السوي، فضلا عن سلطة أولى واجباتها مراعاة مواطنيها أحياء وأمواتا
فإذا كنا لا نوافق الناس على مخالفة القوانين المنظمة
للحج، لكن من تعرض لمشكلة صحية أو وفاة ليس مجرما، فيقوم الإعلام والسلطة والجميع
بسلخه، فهذا ما لا يليق بسلوك الإنسان السوي، فضلا عن سلطة أولى واجباتها مراعاة
مواطنيها أحياء وأمواتا، ونحن نرى كيف يحرص أعداؤنا على رفات أمواتهم، فضلا عن
الجثث والأسرى.
وهو سلوك -للأسف- ملحوظ في السلطة المصرية منذ فترة
طويلة، فمن تعامل مع الموتى المصريين خارج مصر يعرف أن إجراءات إرسال جثمان مصري
توفي خارج مصر لمصر؛ تشترط في كل الدول أن يأتي مندوب من السفارة المصرية لمقر
وفاة المصري، وإعطاء الموافقة على نزول الجثمان. كنت أجد كل السفارات ترسل أعلى
ممثل لها، بينما كنا نرى السفارة المصرية تتباطأ في إرسال أي موطف، وربما يظل
الجثمان المصري لأيام في ثلاجة مشرحة المستشفى، في سلوك لا ينم عن أي تقدير أو
احترام للمواطن المصري حيا وميتا.
الجهة الثانية المسؤولة عن ذلك: هي المملكة العربية
السعودية، فإن التذرع بأن المتوفين هم حجاج غير رسميين، فهي وسيلة هروب من
المسؤولية، فلو لم يكن حاجا رسميا، فهو زائر رسمي للملكة، لأنه دخل بفيزا رسمية
لها، صحيح هي فيزا للزيارة، لكنه دخل عن طريق المطار في السعودية، وختم له بخاتم
دخول الدولة، والمدة المسموح لها ببقائه فيها. وإن من حقوق أي زائر في بلد ما، إذا
مرض، أو توفي، أن يلقى الرعاية.
إن جهد المملكة المبذول في الشعائر كبير ولا ينكره
أحد، لكنه منظور ومرئي في الحرمين الشريفين فقط، ولكن في بقية مشاعر الحج -للأسف- ليس
على نفس القدر من الرعاية والاهتمام، فإنك في الحرمين الشريفين لو سقطت منك شعرة؛
لا تمر أكثر من ساعة وستجد أجهزة وآلات تمر للتنظيف، لكن في المشاعر والخيام لا
تجد هذه الخدمة أبدا، بل كم الإهمال، وعدم النظافة، واضح ومرئي يراه كل من يمر
بالمكان.
وعندما حدثت من قبل أزمات وسيول، برز هذا القصور بشكل
فج، فقد رأينا كم القمامة الذي عام على وجه السيل، وهي قمامة كفيلة بأن تجلب أمراض
الدنيا للحجيج، فإن تجمعا بشريا بهذا الحجم يحتاج إلى ترتيب على مستوى عال جدا،
وليس صعبا على دولة كالسعودية، ويمكنها جلب شركات عالمية للتنظيم، وهذا ليس عيبا،
فقد فعلت ذلك قطر في تنظيم كأس العالم، وقدمت السعودية لتنال تنظيم كأس العالم،
ولو ووفق لها ستفعل ذلك، فالأمر هنا ليس عيبا، ولا معرة تخشى منها، بل هو ترتيب لا
بد منه، وهو أقل واجب يقام به مع ضيوف الرحمن.
الجهة الثالثة المسؤولة من وجهة نظري: هم بعض المشايخ
الذين تبعوا عددا من حملات الحج من المصريين وغيرهم، فقد فوجئتُ بكم هائل من الاتصالات
أتتني من أشخاص يقولون: نحن مجموعة من الحجاج، وفتحنا ميكرفون الهاتف لنسألك،
وحولنا الناس: نريد ألا نبيت في منى بعد يوم العيد الأول، لأن المبيت يشكل عقبة
وعسرا شديدا علينا، فالجو شديد الحرارة والأعداد هائلة في الخيام، وهو ما يضم
الطرفين المسؤولين: المصري والسعودي في الأمر هنا، فلا بد من مراقبة لأداء هذه
الشركات.
تشدد بعض المشايخ في فتاوى الحج، وهو عامل كبير في الأزمة، فإذا كنا أشرنا إلى العامل الرسمي المتمثل في الأنظمة، فإن العامل الشرعي والإفتائي لا يقل أهمية ودرجة عنهما، وهو ما يوجب التضافر بين الجهات التي تبغي إصلاح منظومة الحج بالفعل
وكنت أُفتيهم بأن المبيت في منى سنة عند الأحناف،
فخذوا بهذا المذهب، ووكلوا من يرمي عنكم الجمرات، ولا حرج عليكم، وذلك تخفيفا على
الناس، وتخفيفا عن العدد، لأن معظم من يسأل من المصريين والأتراك، وكلاهما يعتنق
المذهب الحنفي رسميا، فلو خف العدد من أتباع المذهب الحنفي لو ضممنا إليهم الأفغان
والباكستان، ودولا أخرى، لحلت مشكلة.
لكني بعدما أفتيتهم بذلك، وخرج بعضهم، فوجئوا بمن
يتصلون بهم في الفنادق: كيف تخرجون وتتبعون أقلية في الرأي، وتضيعون حجكم؟ فكانوا
يتصلون مرة أخرى، خائفين من ضياع جهدهم ومالهم وسفرهم في هذا الحج، وكان هذا
الخطاب المتشدد يكاد يؤتي أثره معهم، لولا أنهم رأوا المشقة في ذلك، والتيسير في
الرأي الذي أفتيتهم به.
هذا نموذج من نماذج تشدد بعض المشايخ في
فتاوى الحج،
وهو عامل كبير في الأزمة، فإذا كنا أشرنا إلى العامل الرسمي المتمثل في الأنظمة،
فإن العامل الشرعي والإفتائي لا يقل أهمية ودرجة عنهما، وهو ما يوجب التضافر بين
الجهات التي تبغي إصلاح منظومة الحج بالفعل.
Essamt74@hotmail.com