نشرت صحيفة "
فاينانشال تايمز" البريطانية تقريرًا يناقش التحركات الإسرائيلية الأخيرة لإنشاء "منطقة ميتة" في
لبنان، وذلك من خلال قصف المناطق الحدودية بالقنابل الفسفورية، وهو ما أدى إلى تحول حوالي 5 كيلومترات من الحدود اللبنانية إلى منطقة غير صالحة للسكن.
وقالت الصحيفة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن الجيش دمّر مساحات شاسعة من جنوب لبنان خلال قرابة تسعة أشهر من الصراع المستمر مع جماعة
حزب الله المسلحة. وبينما يسارع الدبلوماسيون لمنع اندلاع حرب شاملة قد تشعل المنطقة، دمّرت الهجمات الإسرائيلية أو ألحقت أضرارًا شديدة بالمباني والبنية التحتية والأراضي الزراعية والغابات، كما ضربت أهدافًا عسكرية لحزب الله في القرى والبلدات الواقعة على طول الحدود، وتم تسوية أحياء بأكملها بالأرض.
حدث معظم الدمار في ممر يصل عرضه إلى 5 كيلومترات شمال الخط الأزرق، الذي يمثّل الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة، وذلك وفقًا لتحليل صور الأقمار الصناعية والبيانات الرادارية والإحصاءات الحكومية إلى جانب مقابلات مع مسؤولين محليين وحكوميين وباحثين وعاملين في الدفاع المدني والسكان.
وتشير البيانات التي جمعتها الصحيفة إلى أنه مع تعثر المفاوضات الدبلوماسية، استخدم الجيش الإسرائيلي القوة لخلق واقع جديد على الأرض. وقد جعل القصف الجوي شبه اليومي والقصف المدفعي واستخدام الفسفور الأبيض الكيميائي الحارق جزءًا كبيرًا من المساحة البالغة 5 كيلومترات شمال الخط الأزرق غير صالح للسكن، وتسببت الأضرار الهيكلية والتدهور البيئي والأضرار الاقتصادية في خلق شريط من الأرض يشبه "المنطقة العازلة" التي تريد إسرائيل إقامتها في لبنان، حيث لم يتبق سوى قليل من المدنيين والمباني خالية التي دُمّر الكثير منها.
وفشلت محاولات التفاوض على اتفاق يتضمن انسحاب حزب الله من الحدود، وتحولت هذه المنطقة إلى منطقة عسكرية بحكم الأمر الواقع، ويقوم مقاتلو حزب الله والقوات المسلحة اللبنانية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بدوريات مستمرة فيها.
وجمعت الصحيفة بيانات من الأقمار الصناعية التجارية مع أبحاث من مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك وجامعة ولاية أوريغون. يستخدم الباحثون تقنية توظيف الصور من أقمار صناعية بـ "رادار الفتحة التركيبية"، التي تستطيع اكتشاف التغييرات التي تطرأ على المباني ولا تتأثر بوجود الغيوم.
يظهر الدمار في بلدة عيتا الشعب القريبة من الحدود، حيث تعرض وسط البلدة لقصف شديد منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو اليوم الذي بدأ فيه حزب الله إطلاق النار، وبحسب رئيس بلدية عيتا الشعب محمد سرور، فإنه تدمير ممنهج للبنية التحتية لجعل العودة مستحيلة.
ووفقاً للأمم المتحدة، تم
تهجير أكثر من 95 ألف شخص قسرًا في جنوب لبنان. ووفقًا لإحصاءات الصحيفة، فقد قتلت الغارات الإسرائيلية أكثر من 90 مدنيًا و300 مقاتل من حزب الله - وهو أكثر من عدد المقاتلين الذين قضوا في حرب وحشية استمرت شهرًا في سنة 2006. وأسفرت هجمات حزب الله عن مقتل أكثر من عشرين جندياً ونزوح حوالي 60 ألف شخص، وذلك وفقاً لإفصاحات الحكومة الإسرائيلية وإحصاءات فاينانشيال تايمز.
وأشارت الصحيفة إلى أن المفاوضات الدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة متعثرة: إذ تطالب إسرائيل حزب الله بسحب قواته من الحدود بينما تصرّ الجماعة المسلحة على عدم قبول أي اتفاق حتى يتم وقف إطلاق النار في غزة.
وتستمر عمليات حزب الله اليوميّة ضد الأهداف الإسرائيلية. ووفقًا لمحللين ودبلوماسيين ومسؤولين لبنانيين وأشخاص على دراية بتفكير حزب الله، فإن سحب مقاتليه عمليًا سيكون شبه مستحيل في الواقع نظرا لأن حزب الله المدعوم من إيران ليس القوة العسكرية والسياسية الأكثر قوة في لبنان فحسب، بل يسيطر أيضًا على الجنوب حيث اندمج في المجتمعات المحلية لعقود.
وقد تصاعدت المخاوف في الأسابيع الأخيرة من اندلاع حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل مع تزايد الخطاب العدائي من كلا الطرفين. وفي الأسبوع الماضي، أصدر حزب الله مقاطع فيديو من طائرات مسيّرة لمواقع في عمق إسرائيل، بينما اغتالت إسرائيل قادة كبارا في حزب الله.
وفي قرية الناقورة الحدودية خلال الشهر الماضي كانت الخرسانة المنهارة والحديد المموج المتشابك والأثاث المحطم هي كل ما تبقى من منزلين مدنيين، وكان الدخان ما زال يتصاعد نتيجة غارات إسرائيلية ليلية حيث تم تسوية عدة صفوف من المنازل بالأرض في الأشهر الأخيرة. وأتاحت جنازة اثنين من مقاتلي حزب الله في مسقط رأسهما فرصة للعديد من السكان للعودة لفترة وجيزة والاطمئنان على منازلهم، حيث تُعتبر الجنازات نافذة تتجنب إسرائيل أثناءها تنفيذ الغارات.
وقال أحد السكان الذي لم يرغب في الكشف عن هويته: "قريتنا الجميلة أصبحت الآن مدينة أشباح"، وبكى بصمت عند رؤية ألعاب أطفاله وسط أنقاض منزله. وأضاف: "كل القرى في دائرة نصف قطرها 10 كيلومترات من هنا في نفس الوضع".
وأفاد حسن شيت، رئيس بلدية بلدة كفر كيلا، أن الدمار يزداد سوءًا، مشيرًا إلى أن هناك أحياء أصبحت تشبه غزة، وفي جميع أنحاء الجنوب، سُوّي أكثر من 3000 منزل بالأرض بالكامل، وتعرض 12000 منزل آخر لأضرار متوسطة المستوى، وفقًا لهاشم حيدر، رئيس مجلس الجنوب اللبناني، وهو هيئة رسمية في لبنان.
وتشير تقديرات الرادار إلى وجود هياكل لمبانٍ مدمرة بشدة يبلغ عددها حوالي 1500، وبعضها يضم العديد من المنازل. قال كوري شير، أحد الباحثين، إن هذا "تقدير متحفظ للحد الأدنى لمدى الأضرار التي لحقت بالمباني في جنوب لبنان".
في الناقورة، تم استهداف منزلين في 20 أيار/ مايو. وفي مكان قريب، تم تدمير مجموعة كاملة من المنازل. وإلى جانب الأضرار الهيكلية، فإن استخدام إسرائيل للفسفور الأبيض والمواد الحارقة الأخرى - بما في ذلك منجنيق واحد على الأقل، يستخدم على ما يبدو لإطلاق مقذوفات مشتعلة على لبنان، وفقا للقطات الفيديو - قد أضر بالمحيط الحيوي للبنان.
وانتشر الفسفور الأبيض الكيميائي – الذي يشتعل عند تعرضه للأكسجين – عن طريق قذائف المدفعية والقنابل والصواريخ. وفي حزيران/ يونيو، وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش استخدامه من قبل القوات الإسرائيلية في 17 بلدية لبنانية على الأقل منذ تشرين الأول/ أكتوبر، بما في ذلك ما قالت إنه استخدام غير قانوني في خمس مناطق مأهولة بالسكان.
وذكرت الصحيفة أن الجيش الإسرائيلي رفض المزاعم المتعلّقة باستخدامه للفسفور الأبيض، قائلاً إن قواته مثل الجيوش الغربية الأخرى، تستخدم قذائف دخانية تحتوي في بعض الأحيان على المادة الكيميائية. وقالت إن هذه الأسلحة قانونية بموجب القانون الدولي ولا تُستخدم "للاستهداف أو إشعال الحرائق، ولا يتم تعريفها بموجب القانون على أنها أسلحة حارقة".
من جانبه، نبّه هشام يونس، مؤسس مجموعة "غرين ساوثرنرز"، وهي مجموعة بيئية لبنانية، إن تطهير التربة قد يستغرق سنوات. وقال إن "هدفهم هو تحويل المنطقة إلى أرض ميتة – لجعلها غير صالحة للسكن".
وقال الخبراء إن قدرات حزب الله لم تتدهور بشكل كبير. وقد بدأت الحركة في استعراض أسلحة جديدة مثل الطائرات المسيرة القادرة على إطلاق الصواريخ. وقال قاسم قصير، المحلل المتابع لحزب الله: "حتى الآن، استخدم حزب الله 10 بالمئة فقط من قدراته". وهناك بعض الإحباط في صفوف القاعدة الشعبية إزاء ما يسمونه القتال "الفاتر" الذي يشنه حزب الله.