كانت متوقعة تلك المسارعة من بعض أطراف النظام العربي
الرسمي، للحديث عن حكم
غزة (بقرار أممي/ دولي) بعد انتهاء الحرب، خاصة بعد بدء
تبين الملامح الأولى للخيط الأبيض من الخيط الأسود من نتيجة هذه الحرب الضروس التي
تمثل الجولة الأكبر تاريخيا واستراتيجيا في أتون الصراع العربي/ الغربي من سنة
1948م، وهي الجولة الأكبر بكل حق، وفي كل شيء، وليس في عدد أيامها وشهورها فقط،
ولا حتى في حجم العمل العسكري الضخم الذي كان فيها، ولا حتى في حجم الزخم والجدل
السياسي فيها وعنها.. لكنها ستكتسب هذا الوصف بكل أريحية وبكل منطق، وبكل دقة وشمول،
من قيامها بوضع رأس الفأس على أصل الشجرة الخبيثة في ضربة شديدة وقاصمة.. فانكشف
عنها كل عمقها الخبيث، وتمددها الأخبث في محيط واسع للغاية حولها، ولم يعد هناك
بعدها ما يخفي ولم يعد هناك بعدها ما يٌكتم، ولم يعد هناك بعدها ما يٌسكت عنه..
* * *
وعلى السيناتور الأمريكي الراحل بول فيندلي أن ينعم الآن
بالسلام في قبره (ت: 2019م)، بعد أن كتب لنا وللعالم كتابا من 40 سنة! وتحديدا سنة
1985م بعنوان "من يجرؤ على الكلام؟"، وتحدث فيه بجرأة مذهلة عن اللجنة
الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة (إيباك)، صاحبة الكلمة القوية في كل علاقة
لأمريكا بالشرق الأوسط، سواء في إطار التنفيذ والفعل أو إطار التشاور والمعلومات.
الحديث العربي الرسمي.. وما تم التصريح به عن مستقبل غزة بعد الحرب.. فلا يمكن بحال من الأحوال تصور أنه سيكون قابلا للتحقق في ربوع "أهل الأنوار" في غزة، أولئك الذين صبروا صبرا لا نظير له، "صبر استراتيجي"
سيقول لنا إن الأغلبية العظمى من أعضاء مجلسي الشيوخ
والنواب تنفذ رغبات "إيباك" دون مناقشة، إن هم رغبوا في الاحتفاظ بمناصبهم!
(هكذا!)، وهو ما رأيناه كشمس السماء في الشهور التسعة الماضية!
* * *
وسنعرف منه أن ذلك ليس إلا الجزء الظاهر من جبل جليد
اللوبي الصهيوني الهائل، والذي يمتد نفوذه عبر 200 هيئة ولجنة، تعمل بأوامر مباشرة
منه، وتتواجد في كل المؤسسات السياسية والإعلامية والأكاديمية الأمريكية! وهو أيضا
ما رأه كوكب الأرض كله في الشهور التسعة الماضية!
سيتعرض الكتاب وكاتبه لهجوم شرس من اللوبي الصهيوني
وقتها، والذي وجد في آراء الكاتب جُرأة صادمة لم تحدث من قبل، وهو اللوبي الذي يعمل
بجهد صارم على تأمين كل الجيوب والثغرات المفترضة في حصنه الحصين داخل أمريكا،
سواء بالترغيب التقليدي، أو الترهيب غير التقليدي، الذي قد يصل إلى القتل.
ولن يصدمنا كثيرا حين يقول فيندلي نصا: "أغلبية
المواطنين غير مدركين لحقيقة أن سياسة بلادنا بشأن الشرق الأوسط لا ترسم من قبل
خبراء معنيين بالمصالح القومية للولايات المتحدة"..
تذكر أن ذلك كله كان في منتصف الثمانينيات من القرن
الماضي، والذي قاله السيناتور الذي مثّل ولاية إيلينوي 22 سنة متصلة (1960-1982م)،
الرجل الذي قال كلمته ومضى..
* * *
وعودة إلى الحديث العربي الرسمي.. وما تم التصريح به عن
مستقبل غزة بعد الحرب. فلا يمكن بحال من الأحوال تصور أنه سيكون قابلا للتحقق في
ربوع "أهل الأنوار" في غزة، أولئك الذين صبروا صبرا لا نظير له، "صبر
استراتيجي"، كما سماه بحق الأستاذ فهمي هويدي، وتم تقديم كل شيء شهادة وقربى بين
يدي هذا الصبر العظيم، كل شيء حرفيا، من الأرواح والأنفس، إلى المال والبنين، إلى
البيوت التي كانت أمس عامرة، إلى الشجر والحجر، إلى شوارع المدن والبلدات والطرق
والحارات، والمدارس والمشافي والمساجد.. أكرر ثانية كل شيء.
لذلك فالحديث عن إغراءات المال وإعادة الإعمار سيكون
حديثا مملا، وبعيدا جدا عن القبول لدى شعب قدم كل هذه التضحيات من أجل كرامته
وعزته وحريته.
ثم إن ملحمة الشهور الطويلة من 7 تشرين الأول/ أكتوبر
2023م عقدت بأواصر من الفولاذ "رباطا" لا يوصف بين الشعب والمقاومة.. الشعب
الذي يرى ما قدمته وتقدمه
المقاومة في إرغام العدو وكسر شوكته، بما لم يره الشرق
الأوسط من قبل في تاريخه الحديث.. والمقاومة التي رأت في صبر ورباط الشعب ما أعلى
من هامتها ورفع رأسها وعززها وأعزها، وبما يفوق ما أعلاه وعززه السلاح والكمائن
والأنفاق والمسافة صفر، وكل تلك الأعاجيب المذهلة التي تراها الدنيا صوت وصورة.
* * *
في نفس الإطار تقريبا صرح وزير خارجية أمريكا تصريحه
الشهير وقدم فيه "الأثافي الثلاث" التي تتعلق بغزة بعد الحرب، من وجهة
نظره الشخصية بالطبع، وأيضا وجهة نظر إدارته، هذا إذا كان لإدارته أولوية تذكر لديه،
وهو ما كشفته تلك الاستقالة الكاشفة، للرجل العتيق في إدارة الملف العربي الإسرائيلي،
أندرو ميللر" الشهر الماضي (21 حزيران/ يونيو).
ما هي تلك الأثافي الثلاث.. والتي قالها في مؤتمر بمعهد بروكينجز للأبحاث يوم
الاثنين الماضي (1 تموز/ يوليو)؟
قال إن الإدارة الأمريكية ترفض احتلال دائم من إسرائيل
لغزة، كما ترفض سلطة حماس وإدارتها الحكومية (بغض النظر عن رأى الفلسطينيين أنفسهم!)،
كما ترفض الفراغ والفوضى.
الاحتمال الثالث لم يكن موفقا فيه الحقيقة، ويدل على ضعف
في خياله السياسي واللغوي، لأنه يعلم استعداد حماس التام، للتقدم في الوقت الذي
ستختاره هي وتحدده هي، سواء بالتنسيق المباشر مع باقي الفصائل أو بأي ترتيب أخر، أي
لن يكون هناك لا فوضى ولا فراغ.. الحاصل انه أضاف قائلا: "نحن نعمل مع حلفائنا
العرب لوضع خطة مستقبل غزة"!! وهو ما بدأنا به الحديث، وهو التصريح انزلق من
فم بلينكن، وظهر بعدها فورا، وتحديدا الآن!! على لسان المسؤول العربي الرسمي.
* * *
الشرق الأوسط بعد نسف أوهامه القديمة، وأولها بالطبع بل وعلى رأسها، وهْم الجيش الذي لا يقهر، وبكل ما يرشح وينضح عنه هذا الوهم
الحديث عن الشرق الأوسط بعد نسف أوهامه القديمة، وأولها
بالطبع بل وعلى رأسها، وهْم الجيش الذي لا يقهر، وبكل ما يرشح وينضح عنه هذا الوهم:
سواء فشل المخابرات الأمريكية في الوصول للأسرى وقيادات المقاومة، وفشل الموساد
والشاباك، أو فشل السلاح، أو فشل المقاتل خلف السلاح.. الخ، أو قوة الإرادة والفعل
لدى المقاومة، أو قدرة الصبر والصمود لدى الإنسان في غزة.
هذا الحديث سيمتد طولا وعرضا وعمقا وارتفاعا في فضاءات
الشرق الأوسط كلها، ليس فقط لمكانة فلسطين والمسجد الأقصى في عالم الإسلام، وليس
فقط للقدرات غير العادية للمقاومة (عسكريا وإعلاميا)، ولكن وهو الأهم لأن "البوصلة
التاريخية" للصراع بكل أعماقه وامتداداته، أخذت اتجاهها الصحيح للمرة الأولى
من خمسينيات القرن الماضي! وحدث في طوفان الأقصى (غزة/ حماس) لم يكن إلا باكورة
البواكير، من بدايات، مما لا يُعرف من نهايات.
وكل
باب وإن طالـت مغالقه يوما له من جميل الصبرِ مفتاح
x.com/helhamamy