لم
تكن "طوفان الأقصى" حدثا عاديا وهامشيا، كانت زلزالا ضرب في عقدة مصالح العالم
السياسية والاقتصادية والثقافية، وشملت تفاعلاته وتداعياته جهات العالم الأربع، فلم
تبق دولة أو حزب أو منظمة أو هيئة دولية أو جماعة بشرية أو وسيلة إعلامية لم تتفاعل
مع هذا الحدث، أو تتأثر به.
كل
ما كان العالم يحاول تجاهله بشأن
الاحتلال، وقضية
فلسطين وما تنطوي عليه من ظلم وقهر
ومخططات تصفية، برز على السطح، ووُضع على الطاولة بضربة واحدة وفي وقت واحد، وبرز معه
إصرار الشعب الفلسطيني على
المقاومة والصمود والتضحية، بلا حدود، في سبيل حقه في الحياة
الحرة الكريمة، وتقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، كشأن كل شعوب
العالم..
تبدلت
وتغيرت مواقف، وانكشفت مواقف، وتجذّرت مواقف.. دول أوروبية خرجت من مربع الانحياز المطلق
لدولة الاحتلال، واعترفت بدولة فلسطين، شعوب لم تكن تحفل بما يجري في فلسطين المحتلة
وبما يجري لشعبها، خرجت إلى الشوارع منادية بالعدالة للشعب الفلسطيني، طلاب جامعات
أمريكية وأوروبية في مقتبل العمر، ضحّوا بما يحلمون به على الصعيد الشخصي وقاموا بما
يشبه ثورة شبابية في وجه حكوماتهم المنحازة للاحتلال، يهود يتظاهرون ويعلنون براءتهم
وافتراقهم عن دولة الاحتلال، ويطالبون بوقف المذبحة في
غزة، هيئات دولية نامت طويلا
على إجرام الصهاينة، تململت في نومها، ووجدت نفسها مجبرة على التعامل مع ما يجري ولو
بنصف عين، دول في أمريكا الجنوبية قطعت علاقاتها أو جمدتها مع تل أبيب،
حدث كل هذا وغيره كثير مما يصعب حصره، وحدها منظمة التحرير الفلسطينية، ببنيتها التي صارت عليها بعد اتفاق أوسلو، بقيت خارج الحدث، ويلوك رجالها مقولات السلام والمفاوضات التي لم تعد تقنع احدا. وكأن ما يجري على أرض فلسطين وشعبها في غزة والضفة لا يعني هذه المنظمة، إلا بحساب المحافظة على مصالح من يقودونها، منتظرين اليوم التالي، ومتمنين أن ينكشف العدوان عن انتهاء المقاومة، وتصفيتها، ليطرحوا أنفسهم بديلا
دول باتت محرجة
من إمداد الاحتلال بالأسلحة، ودول أوقفت صفقات شراء أسلحة من الكيان الصهيوني، برلمانيون
في كل جهات الأرض يتحدثون بقوة وشجاعة، وبسقف مرتفع ضد المذبحة الجارية على الشعب الفلسطيني
في غزة، مفكرون وسياسيون وفنانون ومثقفون وإعلاميون لم تعد ترهبهم تهمة معاداة السامية،
أمام هول التطهير العرقي الذي يقوم به الاحتلال.
سطع
الحق الفلسطيني واتسع حضوره، فامتد نوره من أنفاق غزة وأزقة مخيماتها الضيقة، وأضاء
السماء والأرض، وغطت الكوفية الفلسطينية رؤوس وأكتاف كل حر في العالم، وارتفع العلم
الفلسطيني مرفرفا جَذِلا، وتوارى علم الاحتلال منكسا ومخزيا، واتسعت المقاطعة الشعبية
لكل من يدعم الاحتلال من شركات وأفراد، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي إعلاما فلسطينيا
تطوعيا، ينقل الأحداث لحظة بلحظة بكل لغات الأرض، وبات قادة الصهاينة مثالا للإجرام
والعنصرية، وينظر إليهم كخطر على البشرية لا بد من لجمه ومحاكمته وعزله.
وانكشفت
الإدارة الأمريكية وانفضحت مشاركتها بالمذبحة وتغطيتها عليها، وأزيل القناع عن زيف
دعاوى الغرب الاستعماري كما لم يحدث من قبل، فبدا عاريا بازدواجية معاييره وعنصريته.
وبتهديم
غزة انهدمت رواية الصهاينة على رؤوس قادتهم وكيانهم، فتخلخل بنيانهم من الأساس الذي
أقاموا عليهم دولتهم المجرمة، وتبهدل جيشهم وغاص في رمال غزة وحطامها، وفقد جمهوره
الثقة به، فعادت رواية الفلسطيني وصورة الفدائي إلى الحضور. وتوارت إلى الخلف محاولات
التطبيع باهتزاز الكيان.
حدث
كل هذا وغيره كثير مما يصعب حصره، وحدها
منظمة التحرير الفلسطينية، ببنيتها التي صارت
عليها بعد اتفاق أوسلو، بقيت خارج الحدث، ويلوك رجالها مقولات السلام والمفاوضات التي
لم تعد تقنع احدا. وكأن ما يجري على أرض فلسطين وشعبها في غزة والضفة لا يعني هذه المنظمة،
إلا بحساب المحافظة على مصالح من يقودونها، منتظرين اليوم التالي، ومتمنين أن ينكشف
العدوان عن انتهاء المقاومة، وتصفيتها، ليطرحوا أنفسهم بديلا عن فصائل المقاومة، ولا
يتحرجون إن كان هذا البديل امتدادا لمسار تصفية القضية الفلسطينية الذي بدأوه في أوسلو،
ويريدون تكريسه في غزة.
لا
يستحي قادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية من صمتهم على المذبحة، ولا
يقلقهم أكثر من 120 الفا من الشهداء والجرحى، جلّهم من النساء والأطفال، بل يتمادون
في التنسيق الأمني الذي يقدسونه، ويتباهون باستعدادهم للتطوع في إنقاذ نتنياهو من ورطته
في عدم قدرته على السيطرة على غزة، فيعلنون جاهزيتهم لحكمها بمشيئة الاحتلال وتماشيا
مع مخططاته.
دفع الشعب الفلسطيني دما وعرقا ومعاناة شديدة وطويلة، لكي تصبح منظمة التحرير الفلسطينية إطارا وطنيا جامعا له، ومعبرا عن أهدافه ونضالاته ومقاومته الشجاعة ضد الاحتلال. ولا بد لمن يسعون لإعادة بناء المنظمة أن يخرجوا من مقولات المصالحة مع قادة المنظمة
هكذا
أصبحت السلطة والمنظمة تفاخر بجبنها أمام الاحتلال ومستوطنيه، ولا تظهر شجاعتها إلا
على أبناء شعبها المقاومين للاحتلال، فتخذلهم وتلاحقهم وتعتقلهم بل وتقتلهم، وتهاجم
كل حر ينادي بإصلاح المنظمة او بإعادة بنائها على أسس وطنية ديمقراطية تقاوم الاحتلال؛
كما ينبغي أن تكون عليه منظمة تمثل شعبا يسعى لتحرير وطنه واستقلاله وتقرير مصيره بنفسه.
إن
وصول المنظمة والسلطة الفلسطينية إلى هذا الدرك، يجعل من الواجب على كل فلسطيني أن
يرفع صوته في وجه هذا الخراب، مطالبا بإسقاط أوسلو ونهجها وأدواتها وإفرازاتها ورجالها.
إن
منظمة التحرير التي صار سقفها بعد أوسلو أخفض من سقف الأنظمة العربية المطبعة، لم يعد
ممكنا الصمت على بقائها على هذا النحو، بل يجب فعل كل شيء لتخليصها ممن اختطفوها وإعادتها
إلى شعبها.
لقد
دفع الشعب الفلسطيني دما وعرقا ومعاناة شديدة وطويلة، لكي تصبح منظمة التحرير الفلسطينية
إطارا وطنيا جامعا له، ومعبرا عن أهدافه ونضالاته ومقاومته الشجاعة ضد الاحتلال. ولا
بد لمن يسعون لإعادة بناء المنظمة أن يخرجوا من مقولات المصالحة مع قادة المنظمة، فإذا
كانت مساعي المصالحة مع هؤلاء قد وجدت لها بعض مسوغات، قبل طوفان الأقصى، فإن قادة
المنظمة بعد الطوفان قد أطلقوا رصاصة الرحمة على كل محاولات التصالح معهم، أو السكوت
عنهم.
إن
من المفرح والمحزن معا، أن نرى شعوب العالم اليوم، وبفعل ما أحدثته "طوفان الأقصى"
من صحوة وعي وضمير، تهتف لفلسطين الحرة من النهر إلى البحر، في حين ينخرط قادة السلطة
والمنظمة في التنسيق الأمني، وتقديم التنازلات، وتسويغ محاولات الالتفاف على صمود المقاومة
والشعب في غزة والضفة.
لقد
سقط قادة المنظمة اليوم في حفرة سعد حداد وأنطون لحد، ولا بدّ لهم أن يلاقوا المصير
نفسه الذي لقيه من وضعوا أنفسهم في مواجهة أهداف شعوبهم، ولعل الإهانات اليومية التي
يتجرعونها على يد نتنياهو وبن غفير وسموتريتش تنبئ بمصيرهم.
لغة ورؤى ما قبل الطوفان لم تعد قابلة للحياة بعد الطوفان، وإن شعبا أمسك بتلابيب العالم، وهزّه، وأيقظه من غيبوبته، وفتح عينيه، ووضعه أمام ضميره ومسؤوليته، قادر على أن يعيد بناء إطاره التمثيلي الموحَّد، والموحِّد، تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، بعيدا عمن ربط مصيره بمصير الاحتلال، وبعيدا عمن يبحثون عن تسويات مصلحية، أو فرص شخصية أو أجندات خارجية عربية وغير عربية
امام
هذا الواقع الجديد، بآماله وآلامه، فإن على كل من يتصدى لإعادة بناء منظمة التحرير
الفلسطينية أن يتخلى عن مجاملة الخراب ورموزه، فالمطلوب اليوم الخروج من حالة البلبلة،
التي تفرضها هذه الرموز.
التغيير لا يأتي إلا بوضوح الرؤية، كشرط لجمع كل فئات الشعب
الفلسطيني حول منظمة التحرير الفلسطينية، بعد استعادتها من مختطفيها وجعلها عنوانا
للكفاح والنضال والمقاومة بكل أشكالها.
إن
لغة ورؤى ما قبل الطوفان لم تعد قابلة للحياة بعد الطوفان، وإن شعبا أمسك بتلابيب العالم،
وهزّه، وأيقظه من غيبوبته، وفتح عينيه، ووضعه أمام ضميره ومسؤوليته، قادر على أن يعيد
بناء إطاره التمثيلي الموحَّد، والموحِّد، تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، بعيدا
عمن ربط مصيره بمصير الاحتلال، وبعيدا عمن يبحثون عن تسويات مصلحية، أو فرص شخصية أو
أجندات خارجية عربية وغير عربية.
إن
الخوف من تسمية الأشياء بأسمائها لم يعد ممكنا، ولا يصح أن يكون، ونحن نقف اليوم في
وجه أعتى وأشرس محاولات تصفية قضية فلسطين، ومحو شعبها من التاريخ والجغرافيا.
وإذا
كانت الحكمة مطلوبة في مقاربة كل تفاصيل الشأن الفلسطيني، فإن الخوف ليس من الحكمة
في شيء. فبعد الصمود الأسطوري في غزة، وبعد التضحيات الجسام في الضفة، وبعد الصبر الطويل
في أراضي الداخل المحتل والقدس، وبعد المعاناة من كل نوع في الشتات، وبعد انكشاف كل
مخططات العدو وداعميه والمتواطئين معه، صار خط الجماهير الفلسطينية واضحا بأنه مع المقاومة،
وعلى رأسها المقاومة الشجاعة الذكية الواعية في غزة.. بعد كل هذا ما زالت فلسطيننا
وستبقى من النهر إلى البحر، ومن الوهم الظن بأن الشعب الفلسطيني سيرضى بأقل من ذلك،
بعد أن دفع كل الأثمان مسبقا.