لا بأس، فقد كان حملا كاذبا، يخفف من وطأته أن أحدا لم
يكن يعتقد بعد سابقة أعمال القوم، أن الحداية يمكن أن تلقي كتاكيت على الخلائق،
بيد أن أحدا لم يكن يذهب به الظن إلى الوصول لمستوى هذه الفضيحة التي يتغنى بها
الركبان، والتي لا يمكن علاجها بسهولة وتلافي مخاطرها على سمعة الحكم!
ليس مشكلة في ألا يكون وزير التعليم، أو غيره من
الوزراء، حاصلا على درجة الدكتوراة، وهي درجة علمية تدخل في عالمنا العربي في باب
الوجاهة الاجتماعية، ونحن قوم كأبي سفيان نحب الفخر، وهي لا تعني تمكن صاحبها من
العلم الموسوعي، فهو خبير في مجال تخصصه، وللدقة في مشكلة بحثه، دون أن تعني
تفويضا بالقدرة على النجاح ولو في إدارة منزل، ورعاية أسرة، ناهيك عن أن ينجح
كوزير، فهذا موقع يحتاج إلى أصحاب القدرات الخاصة!
ولو كان النجاح مقدرا لحملة الدكتوراة، لكنا الآن من
الدول المتقدمة، لأن نسبة الحاصلين على هذه الدرجة في حكومات ما بعد ثورة 1952، هي
أكبر حتى من نسبة الجنرالات، لكن عندما تم تغييب السياسة بعد ثورة يوليو/ تموز،
كان الاعتماد على التكنوقراط، بدون النظر إذا كانوا حاصلين على الدكتوراة أم لا، وإن
كان العرف جرى على أن يكون وزير التعليم من أساتذة الجامعات، وهو عرف لم تعرفه
وزارات أخرى مثل الخارجية، والتموين، والإسكان، والثقافة، والإعلام، والداخلية
والدفاع بطبيعة الحال!
النظام لم يكن يعتبر حكومته تكنوقراطية كاملة، أو سياسية كاملة، فلم ينشغل بأن يكون وزير التعليم من أهل الاختصاص بالمعايير التكنوقراطية، لكن أن يصل الأمر إلى مستوى الوزير الحالي، فهذا أمر كاشف لسياسة عهد، وعنوان لمرحلة!
اختطاف وزارة التعليم:
وعندما أثير بعد ثورة يناير/ كانون الثاني، أن وزير
السياحة، الذي شغل منصب وزير الإسكان لفترة لم يكن يحمل بكالوريوس الهندسة كما
ادعى، لم يشغل هذا بال أحد، ولعل هذا الأمر كان يتردد بين الصحفيين دون أن يجد
أحدهم نفسه متحمسا لصياغته كخبر أو حتى كسؤال، وإن كانت وزارة التعليم لها طبيعة
خاصة!
وهي وزارة مختطفة من محيطها فلم يتول أمرها معلم سابق
سوى منصور حسين، كما لم يشغل الموقع أحد من أساتذة التربية. وقد شغل منصب الوزير
طبيب الأطفال حسين كامل بهاء الدين، وأستاذ القانون الجنائي أحمد فتحي سرور، وإن
كان لم يقع عليهما الاختيار بحسبانهما فقط يمثلان التكنوقراط، ولكن لاتصالهما
بالسياسة. وحتى عام 2000 كان نظام مبارك محظوظا بدرجة أو بأخرى لأنه استفاد من
الذين تخرجوا في التنظيمات التي أنشأتها ثورة يوليو 1952، وأرجو عدم الاستهانة
بهذه المدارس السياسية، لأنها لم تخلق من العدم، فقد كانت الأوضاع قريبة عهد
بمرحلة سياسية تعج بالأحداث وبالمواقف والمناكفات الحزبية، واستفاد الحكم العسكري من
المنخرطين في هذه الحالة، ولم يتغيب سوى زعماء العهد البائد.
وإن كان عيب هذه المدرسة أنها معادية للديمقراطية، ولا
تهتم كثيرا بالحرية، وهي أمور لا يريدها الحكم، فكان من نصيب نظام مبارك في بدايته
أن يكون رئيسا للبرلمان واحد من تلاميذ هذه المرحلة وهو الدكتور رفعت المحجوب،
الأكثر أهلية في إدارة البرلمان منذ حركة الضباط وإلى الآن، مرورا ببرلمان ما بعد
الثورة!
وكانت منظمة الشباب، والتنظيم الطليعي، بجانب الاتحاد
الاشتراكي (الاتجاه القومي سابقا)، هي التي أمدت عهدي السادات ومبارك بالكفاءات
التي مثلت صمام أمان لنظامه، سواء أصحاب اللياقة التنظيمية (كمال الشاذلي) أو
كفاءة الإدارة من أمثال مفيد شهاب، وكمال أبو المجد، وإسماعيل صبري عبد الله، بل
وعاطف صدقي!
ولهذا فإن النظام لم يكن يعتبر حكومته تكنوقراطية كاملة،
أو سياسية كاملة، فلم ينشغل بأن يكون وزير التعليم من أهل الاختصاص بالمعايير
التكنوقراطية، لكن أن يصل الأمر إلى مستوى الوزير الحالي، فهذا أمر كاشف لسياسة
عهد، وعنوان لمرحلة!
المحتال وزيرا:
أخطر ما في أمر "دكتوراة" الوزير الجديد، ليس في الاحتيال وفجاجته، ولكن في أن تقع السلطة في هذا المأزق، وفي بلد عُرف بأجهزته الأمنية المتعددة والمتنافسة لا سيما في هذه المرحلة، فهل يعقل أن تكون تقاريرها جميعها خلت من هذا الاحتيال؟
وليس أمر الدرجات العلمية الوهمية هو الموضوع الأساسي،
وإن كانت أهميته في أن القوم اختاروا هذا المحتال وزيرا، وفي تقديري أن الدكتوراة
الوهمية غطت على ما هو أهم من ذلك!
لا شك أننا أمام شخص مستهتر، فيلجأ لمكتب غير قانوني ليحصل
منه على شهادة غير معترف بها في دولة المنشأ، وهو يدرك ماذا يفعل، وكل ما هنالك أنه
كان يسعى للحصول على اللقب (دكتور) لتسيير الأعمال في مدارس السيدة والدته، وهي من
أهم المدارس الخاصة في
مصر، والشهادة ليست من مسوغات شغله لوظيفته هذه!
وبالتأكيد أن اختياره وزيرا للتعليم لم يكن مطروحا
على جدول أعماله ولو في أحلامه، وإلا كان يمكنه استكمال الشكل، ومن جامعات مصرية
معترف بها، وقد طالعنا كيف أن دولة بعينها ضجت من تدافع خريجي جامعة بالذات على
الوظائف، وإذا كان قد تم تسجيلهم رسميا، فقد تم الإمساك بهم متلبسين بالتزوير،
لأنهم لم يغادروا بلدهم أبدا. والرجل بحكم كونه في السوق (سوق التعليم) كان يمكنه
أن يتصرف، فلا نجد أنفسنا أمام موضوع مثير يغطي على ما هو أهم، وهو فلسفة
الاختيار!
فالوزير الجديد قادم من التعليم الاستثماري، ولا يخلو
الأمر من حكمة، وكما تم السماح للقطاع الخاص بإدارة مستشفيات الحكومة، فلا يستبعد
أن جلبه لهذا الموقع هو لتحويل منظومة التعليم الحكومية إلى تعليم استثماري، ونحن
نشاهد البلد وقد تحول إلى سوبر ماركت، ونرى رأس السلطة وهو يخاطب أعضاء حكومته كما
لو كان رئيس مجلس إدارة شركة لتوظيف الأموال، مع الشركاء في المشروع!
وأخطر ما في أمر "دكتوراة" الوزير الجديد، ليس
في الاحتيال وفجاجته، ولكن في أن تقع السلطة في هذا المأزق، وفي بلد عُرف بأجهزته
الأمنية المتعددة والمتنافسة لا سيما في هذه المرحلة، فهل يعقل أن تكون تقاريرها
جميعها خلت من هذا الاحتيال؟ وقد كان مبارك لا يكتفي بسؤال مباحث أمن الدولة في
أمر يخص حقيقة نتيجة انتخاباته، ولكنه يلجأ كذلك للمخابرات العامة ليفصل لنفسه بين
هذا التناقض!
إن العمل في مجال كإنشاء المدارس، يدفع جهة الاختصاص
الأمني التي بيدها عقدة الأمر إلى أن يكون لكل العاملين في المجال ملفات خاصة بهم،
وأمر كهذا لا يفوتها، لنكون أمام سؤال الوقت: هل طُلب ملف الوزير قبل اختياره؟!
ليس من المنطق أن تتحالف الأجهزة الأمنية في إخفاء
معلومة بخصوص الملف التعليمي للوزير وتضليل القيادة السياسية، فهل طلبت القيادة
التقارير عنه، أم أننا أمام نمط جديد لحكم الفرد، لم تعرفه مصر ولو في عهد عبد الناصر؟
فهو يحكم وحده، ويختاره وحده، ويقوم اختياره على الاستملاح، لأن ما يسيطر عليه هو
اتجاه البيزنس والاتجار في كل شيء، فمن يصلح لإدارة منظومة التعليم إلا قادم من
التعليم الاستثماري الخاص؟!
لأنه ليس نظاما سياسيا باعترافه، ولا يوجد لديه وقت لإضاعته، فسوف يندفع في سياسته التي على أساسها اختار هذا الوزير من خارج السياق العام!
والحال كذلك، فإن القوم أحيط بهم من كل جانب، فإذا أقيل
الوزير لكشف هذا عشوائية الاختيار، التي لا تصلح لإدارة محل بقالة، وكيف يمكن لفرد
مهما كانت قوته أن يلعب بجهات الاختيار كرة شراب وأن يضللها، وإن أبقت عليه لثبت
أنه التواطؤ على اختيار محتال لوزارة مهمة!
لو كان الحكم سياسيا لوازن بين ضررين واختار أخفهما
وأبقى على الوزير في موقعه، ثم شكل له مجموعة لإدارة أزمته، بأن يقدم في مجاله
إنجازات لصالح العملية التعليمية، وبما يجعله مقربا من وجدان أولياء الأمور، لا سيما
في مرحلة الثانوية العامة، عندئذ سيتجاوز الرأي العام عن الشهادات الحقيقي منها
والزائف، ويكون لسان حال الناس هو ما قاله بوق إعلامي: ماذا أخذنا من أصحاب
الدكتوراهات؟.. صحيح ماذا أخذوا من أصحاب الدكتوراهات؟!
ولكن لأنه ليس نظاما سياسيا باعترافه، ولا يوجد لديه وقت
لإضاعته، فسوف يندفع في سياسته التي على أساسها اختار هذا الوزير من خارج السياق
العام!
إنها مرحلة الفلوس.. ولا شيء غير الفلوس!
x.com/selimazouz1