استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن قمة حلف شمال الأطلسي (
الناتو) التي تحتفي بالذكرى الـ75 لإطلاق
الحلف، ولكن التي تدشّن نجاح الولايات المتحدة في جرّ الحلف (أي أوروبا، في الركائز الكبرى) نحو استقطاب معادٍ للصين؛ بعد استقطابات سابقة شهدت تدشين الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، ثمّ روسيا فلاديمير بوتين؛ فضلاً عن أكذوبة "الحرب على الإرهاب" التي استهدفت ما تبقى من تسمية "العالم الثالث" وأجزاء غير قليلة من عوالم الآخر عموماً والمسلم والإسلامي خصوصاً.
ولم يغفل البيت الأبيض عنصر التفاخر بانعقاد القمة وقد بات عقد الحلف يضمّ 32 دولة، وكانت السويد هي الوافد الأحدث، بعد جارتها فنلندا.
وكي لا تكون سياسات الأقطاب مقتصرة على الحلف الأطلسي، ورداً على دعوة شركاء الحلف (أوكرانيا، أستراليا، اليابان، نيوزيلندا، كوريا والاتحاد الأوروبي) إلى قمة واشنطن؛ لم تتأخر موسكو وبكين في إعداد رسالة ملائمة، مسبقة كما يتوجب القول؛ فانعقدت في أستانا، عاصمة كازاخستان، قمّة "منظمة شنغهاي للتعاون".
وكان هذا القطب قد تألف أساساً من 5 أعضاء أصليين (الصين وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان) في سنة 2002؛ وتوجّب الاقتداءً بالأطلسي وجرّ الهند وباكستان وأوزبكستان وإيران، والعضو الأحدث كان بيلاروسيا. نغمة التعاون الأوراسي عزفها الرئيس الروسي، فطالب بإحلالها محلّ المركزيات الأوروبية والأطلسية أحادية الجانب؛ وأمّا الرئيس الصيني شي جين بينغ فقد اختار التحذير من «عقلية الحرب الباردة الغربية» واكتفى بذلك وعيداً ونذيراً.
النواتج الرئيسية للقمة حسب تعبير البيت الأبيض وطبقاً للترجمة العربية، تضمنت مبادئ عريضة، مستعادة ومتكررة، بينها التالية: حلف أكثر قوة وصلابة وأعيد تنشيطه، زيادة الإنفاق الدفاعي وتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية، قدرات محدثة للردع والدفاع، تعزيز الشراكات الدولية، المرونة المعززة، الدفاع السيبراني، مكافحة الإرهاب والاستجابة للتحديات ما بعد الجناح الجنوبي للحلف وبخاصة في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل…
ثمة، إلى هذا بند طريف جدير بوقفة خاصة، يقول: "تعزيز جدول الأعمال المتعلق بالمرأة والسلام والأمن عبر المهام الرئيسية الخاصة بالناتو"؛ وفي تفاصيله أنّ الحلفاء أجروا مراجعة لسياسة الحلف المحددة في العام 2018 بهدف تحقيق التزام الحلف طويل الأمد تجاه قضايا المرأة والسلام والأمن.
وهذه «لسياسة المحدثة تدمج التهديدات الأمنية الجديدة، وضمنها "العنف القائم على النوع الاجتماعي والذي تيسره التكنولوجيا، وسوء استخدام التقنيات الجديدة والناشئة، والأمن المناخي، والعنف الجنسي المرتبط بالنزاعات".
الميدان الوحيد الذي يضربه الحلف مثالاً على هذا البند، هو، بالحرف: "حرب العدوان الروسية على أوكرانيا والتهديدات التي تشكلها على النساء على وجه التحديد عند الخطوط الأمامية للصراع".
لحلف لا يُبصر ما هو أبعد من خرائط أوكرانيا
هل ثمة فرصة أن تكون صراعاتٌ أخرى ميادينَ تهديد للنساء، في السودان مثلاً؟ كلا بالطبع، الحلف لا يُبصر ما هو أبعد من خرائط أوكرانيا.
جرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، حيث استُشهدت نساء، بينهنّ حوامل، بعشرات الآلاف؟ كلا وألف كلا، ما من مفردة واحدة تشير إلى حرب الإبادة الإسرائيلية، رغم قرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والهيئات الأممية المختلفة وعشرات المنظمات الحقوقية والإغاثية في طول العالم وعرضه.
بيد أنّ طرفة الطرائف، الأقرب إلى إهانة العقل منها إلى نكتة سوداء سمجة، ما جاء في النواتج إياها من أنّ الناتو "حلف دفاعي، ويتمثل هدفه الأساسي في تجنب الحرب وليس شنهّا"؛ وكأنّ التدخل في يوغوسلافيا السابقة وليبيا وأفغانستان لم تكن بعض جرائم الحرب التي ارتكبها الحلف.
أو كأن ناتجا ثانياً عن قمة واشنطن لا يقول، بالحرف أيضا، إنّ خطط الحلف العسكرية تغطي "كافة أراضي الناتو والمجالات، بدءا من الجوّ والبرّ والبحر وصولا إلى الفضاء والمجال السيبراني"؛ حتى إذا تمّت التعمية على مضامينها الفعلية عن طريق الإيحاء بأنها "مجموعة من الخطط الدفاعية الشاملة التي طورها الحلف منذ نهاية الحرب الباردة".
أو، أخيرا وليس آخرا، كأنّ اتساع الحلف لـ 32 عضواً ليس الدليل الأوّل على أنه بات "قادراً على الربط بين قوّاته ومناطق جغرافية ومهامّ محددة، مما يتيح التركيز بشكل أفضل على عمليات الحلف وأنشطته واستثماراته» حسب ناتج آخر.
ذلك، حتى من دون قصد صريح، يعيد الناتو إلى تعريفه الأمّ، بحكم منطق الأمور الأبسط: أنه حلف أطلسي عسكري وسياسي معاً؛ وإذْ يواصل التوسّع إلى ما بعد 32 دولة، بينها جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) فلأنه ليس الوحيد في عالمنا المعاصر، فحسب؛ وليس التذكرة الوحيدة، تقريباً، بأنّ البشرية عاشت الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو، أساساً ربما، حلف جغرافي ـ حضاري ـ ثقافي، إلى جانب السياسة والأمن والعسكرة.
وتلك خلاصة لا يتوجب أن يُنسى مْنْ شدّد عليها أوّلا، فكان بمثابة ناطق بلسان مركزية غربية عنصرية أو تكاد: المسرحيّ/ الرئيس التشيكي الراحل فاتسلاف هافيل، حين جزم دون أن يرفّ له جفن: "لا يتوجب على الحلف أن يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية، يخصّ الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة».
وخلال واحدة من أحقاب التحوّل التي شهدها الحلف، كانت إليزابيث شيروود مساعدة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لشؤون أوروبا،
قد لاحظت أنّ الحلف، في أفغانستان وحدها، ينشر 125 ألف مقاتل، من 28 دولة أعضاء في الحلف، و22 دولة صديقة أو شريكة. كذلك ذكّرت شيروود بجوهر موقف أوباما من الأطلسي: أنه «التحالف الأكثر نجاحاً على امتداد التاريخ الإنساني»؛ متباهية ــ ليس دون وجه حقّ، في الواقع ــ أنّ سنة 2012 سجّلت الذكرى الـ15 لتدشين تعاون الحلف الأطلسي مع دولة لم تكن تخطر، البتة، على بال روّاد الحلف المؤسسين: روسيا!
واليوم، حين يصرّح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بأنّ الناتو هو "التحالف الأكثر قوّة ونجاحاً على امتداد التاريخ" ألا يبدو وكأنّ ذاكرته طمست انسحاب بلاده المذلّ المهان، صحبة الحلف الأطلسي، من أفغانستان، وتسليمها لقمة سائغة للطالبان؟
أم أنه يتغافل أيضاً عن حقيقة أنّ تسمية الأطلسي ذاتها لن تكون ملائمة، بل تصبح غير مطابقة وجوباً، لتوسّع الحلف نحو اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا؟ وفي المحصلة الراهنة الجلية، ما الذي يضيفه الحلف فعلياً لمأساة الاجتياح الروسي في أوكرانيا؛ ما خلا، بالطبع، استقبال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي في قمم الحلف، على مستوى رؤساء الدول أو وزراء الدفاع، لا فرق؟ وأيّ تحالف هذا، الأقوى في التاريخ، لكنّ خرائطه تخلو تماماً من قطاع غزّة، حيث تدور واحدة من أشنع حروب الإبادة؛ على مدار التاريخ، هنا أيضأ؟
بمعزل، بعد هذه المعطيات وسواها، عن حقيقة أنّ التوازن داخل الحلف ليس مختلاً لصالح الولايات المتحدة فقط، بل هو يفتقر بالفعل إلى جملة العناصر التي تتيح استخدام مفردة "التوازن" وفق أيّ معنى ملموس؛ لأنّ أمريكا تنفق، وحدها، مليار دولار أمريكي يومياً على شؤون الدفاع، في حين أنّ مجموع الدول الأوروبية الـ 15 الأعضاء في الحلف لا تنفق أكثر من 500 مليون دولار.
لا عجب، بعد 75 سنة، أن ترتعد فرائص 31 دولة إزاء احتمال عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الدولة الـ32، الكبرى والأمّ؛ خاصة وأنّ القمم، على شاكلة واشنطن وأستانا، لا تتلاقى إلا… في السفوح!
القدس العربي