استشهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، في
ندوة صحفية في أكتوبر 1981، بمقولة العلامة
التونسي ابن خلدون: "في بداية
الامبراطورية تنخفض الأداءات وترتفع المداخيل، وفي نهايتها ترتفع الأداءات وتنخفض
المداخيل". تعكس هذه العبارة بعمق دورة حياة الدول، من النشوء إلى الازدهار،
ثم الانكماش، وأخيرًا السقوط. ما نشهده اليوم في تونس يبدو أنه تجسيد حي لهذا
السياق التاريخي.
القمع والضرائب.. مؤشرات سقوط الدولة
وفقًا لابن خلدون، يبدأ سقوط الدولة بما
يسميه "إرهاف الحد"، والذي يمكن ترجمته في العصر الحديث بالقمع وتقييد
الحريات العامة. يشير ابن خلدون إلى أنه "إذا كان الملك قاهراً باطشاً
بالعقوبات، منقباً على عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل". بتأمل
حال تونس اليوم، نجد أن عودة الدولة إلى هذه السياسات القمعية، وتقييد الحريات،
والانفراد بالحكم، أفقدها توازنها وسرع من سقوطها. تعكس هذه السياسات نظام حكم
يفتقر إلى الشرعية الشعبية، مما يؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة
وزيادة الاستياء العام.
تونس تقف اليوم على مفترق طرق. أمامها خياران: إما الاستمرار في السياسات الحالية التي تؤدي إلى مزيد من الانحدار والفقر، أو تبني إصلاحات جذرية تحرر الاقتصاد وتعيد الثقة والأمل للشعب والمستثمرين.
ومن العلامات الأخرى لسقوط الدولة، كما يقول
ابن خلدون، هو ”فرض المكوس“ حيث يستحدث “صاحب الدولة أنواعًا من الجباية يضربها
على البياعات ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان
السلع". في تونس اليوم، تتعدد الضرائب المباشرة وغير المباشرة: من الجمارك،
وضريبة على القيمة المضافة، وضريبة على الاستهلاك، والخصم من المورد، وغيرها. تؤدي
هذه الضرائب الكثيرة إلى زيادة غلاء المعيشة، وشح الموارد، وارتفاع البطالة، وفقر
الشعب. هذه السياسات الضريبية القاسية تعمق الأزمة
الاقتصادية وتؤدي إلى تدهور الوضع
الاجتماعي والسياسي، حيث تصبح الدولة غير قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها
الأساسية، مما يخلق بيئة من الاضطرابات وعدم الاستقرار.
كثرة الضرائب تخرب الاستثمار وتفقر الشعب
تفرض الدولة التونسية خصمًا من المورد على
كل مشغل، حيث يخصم كل مستثمر 15% من أجور العمال لتسليمها إلى الدولة. هذا الأمر
يزيد من الأعباء على العامل التونسي الذي يكافح لتلبية احتياجات معيشته الأساسية.
ومع تزايد الضغط المالي، بات المستثمر في تونس مجرد "مكّاس" يجمع
الجبايات للدولة، مما يدفع الكثير منهم للعزوف عن التوظيف لتقليص كلفة اليد
العاملة وتجنب الضرائب المفرطة.
هذه السياسات الضريبية القاسية تؤدي إلى
تراجع فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة، مما يزيد من تعقيد الأزمة الاقتصادية
والاجتماعية، ويزيد في حدة الأزمة النفسية لعموم التونسيين الذين يعيشون اليوم
حالة من الخوف والذل والنكد وفساد الآمال، وخاصة الشباب، حيث تؤكد عمليات سبر آراء
أن 75% منهم يائسون من أن يكون لهم مستقبل
في بلادهم ويفكرون في الهجرة. وكل هذا يدفع المستثمرين إلى تجنب الاستثمار في بيئة
تفتقر إلى الاستقرار والشفافية، مما يعمق من تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في
البلاد، وهو ما ينتكس بالبلاد في حلقة مفرغة يصعب الخروج منها مستقبلا.
الاحتكار خطيئة الدولة
يركز الخطاب الرسمي خلال السنوات الأخيرة
تركيزا كبيرا على معضلة الاحتكار وعلى مسؤولية المحتكرين على تخريب الاقتصاد
الوطني، ولكن في الواقع الدولة التونسية هي المحتكر الأكبر لكل شيء: السماء والأرض
وما تحت الأرض وما فوقها، والمياه والكهرباء، والخمر والتبغ، والوقود، والعملة
الصعبة، والحبوب، والعلف، والسكر، والشاي. هذا الاحتكار الشامل يعرقل النمو
الاقتصادي ويقف عائقًا أمام الابتكار والمنافسة، ويعزز بيئة من الاستغلال وعدم
الكفاءة، مما يؤدي إلى تدهور الخدمات وزيادة معاناة الشعب التونسي في مختلف جوانب
الحياة.. بالإضافة إلى ذلك، تعاني جميع مؤسسات الدولة من الخسائر والفساد
المستشري، مما يعمق الأزمة الاقتصادية ويجعل من الصعب تحقيق أي تنمية حقيقية.
علينا أن نتذكر دائمًا كلمات ابن خلدون: ”اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب…
الدولة شريكة في الفساد
الدولة هي الراعي الأول للفساد، وإن لم تكن
ترعاه فهي شريكة فيه. حيث يترعرع الفساد داخل مؤسسات الدولة. كما أن قوانين
المالية هي أساس الفساد في البلاد، بما تكرّسه من ابتزاز للفاعلين الاقتصاديين
كبارهم وصغارهم. وهو ما يدفع بالكثيرين إلى الأسواق الموازية لتجنب الضرائب
العالية أو القيود الحكومية الصارمة. تلك الأسواق تُعتبر تحديًا مضادًا للدولة
وضربا لسياستها، كما تتسبب في زيادة التهرب الضريبي وتؤثر على اقتصاد الدولة بشكل
سلبي من خلال تقليل المداخيل المتاحة للحكومة.
تدهور الاقتصاد مسؤولية الدولة
تدهور الاقتصاد التونسي في السنوات الخمس
الأخيرة ككرة الثلج. حيث تراجعت كل المؤشرات الاقتصادية، من ذلك تفاقم نسبة
البطالة بسبب الضعف الهيكلي للاستثمار. المدير العام للسياسة النقدية بالبنك
المركزي التونسي محمد صالح سويلم، يعيد هذا التراجع إلى انخفاض عامل الثقة وغياب
عوامل رئيسية مثل الاستقرار الحكومي والرؤية الاستراتيجية الواضحة. في حين يؤكد
عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منير حسين، أن سياسة التقشف
التي انتهجتها الدولة تسببت في تعطيل محركات النمو. وهو ما يجعل من الدولة
ومؤسساتها وسياساتها السبب الرئيسي للتدهور المستمر للاقتصاد الوطني.
عرفنا المشكل فما هو الحل؟
التغيير السياسي والتحرير المالي هما المخرج
الوحيد لتونس حكومة وشعبًا. لا مجال للنمو والازدهار إلا بتحرير الشعب من مخالب
الدولة. يجب تحرير الاقتصاد وتخفيض الضرائب، وإعادة الأمل في النجاح والنمو. بترك
الثروة بيد الشعب. بهذا الخيار وحده ستنمو المداخيل، ويعود الاستثمار والتشغيل.
ولا شك عندنا أن فتح المجال أمام البنوك الاستثمارية الخاصة والمحلية، وتحرير
التعامل بالعملة الصعبة، سيزيد من موارد الدولة ويرفع من قيمة الدينار.
تونس تقف اليوم على مفترق طرق. أمامها
خياران: إما الاستمرار في السياسات الحالية التي تؤدي إلى مزيد من الانحدار
والفقر، أو تبني إصلاحات جذرية تحرر الاقتصاد وتعيد الثقة والأمل للشعب
والمستثمرين. المستقبل يعتمد على القرارات التي ستتخذها الدولة اليوم. علينا أن
نتذكر دائمًا كلمات ابن خلدون: ”اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب
بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من
أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك
وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب… والعمران
ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم في المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال اختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد
بفساد مادتها ضرورة ".
يا أيها التونسيون، إذا لم يتم اتخاذ
الإجراءات اللازمة، فإن تونس ستستمر في طريقها نحو السقوط المحتوم.
*رجل أعمال
تونسي