كانت ليلة صيفية هبت عليها نسائم باردة
خفيفة تشجع المرء على أن يخرج من سجن البيوت والمكاتب إلى رحب الشوارع وفضاءات
الميادين؛ التي حرمنا منها بحكم العمل، والانشغالات وقررت أن أتناول "الآيس
كريم" وقد نصحني أحد الأصدقاء بمحل لبيع المثلجات والعصائر في أحد الأحياء
القريبة من الحي الذي به أسكن، فأخذت بالنصيحة، لا سيما أن ما شجعني أن هذا المحل،
ووفقا لقسم صديقي، يبيع عصير وآيس كريم المانغو الذي حرمت منه منذ عشر سنوات، هي
عدد سنوات إقامتي في منفاي الجبري، فتشجعت وأخذت القرار.
دخلت المحل، فإذا بها تقف خلف طاولة بيع
الآيس الكريم، فكان أول ما رأيت في المحل عينيها اللامعتين، اللتين تشعان بالذكاء
والعمق، كأنهما تحملان في طياتهما أسرار العالم وأحلامه، عينان تعكسان قوة داخلية وشغفا
بالحياة، واعتزازا بالنفس، وكأنها تملك الأرض، كانت تجسد معنى القوة والثبات،
ألقيت عليها تحية المساء فردت بصوت شامي، فقلت،
فلسطينية أنت، قالت ـ بكل فخر ـ وشمم، نعم، فقلت، من أين، فزاد الفخر فردت وهي
ترفع رأسها في حركة لاإرادية لرئيس منتصر في
حرب ضروس، من
غزة، فقلت متى جئت إلى
إسطنبول قالت من ثماني سنوات، قلت يعني خرجت من غزة وكان عمرك خمسا أو ست سنوات،
قالت نعم كان عمري وقتها سبع سنوات، قلت لها من أي دار في غزة أنت، قالت ببراءة
الأطفال من دار جدي.
بعد أن طالت الحرب، ودخولها الشهر العاشر،
ومع تزايد أعداد الشهداء، الذين أحصي منهم ما يقارب الـ 39 ألفا غير أولئك الذين
يقبعون تحت ركام منازلهم، حيث تعجز فرق الإنقاذ وآلياتهم عن رفع الأنقاض عنهم،
لانتشال جثامينهم، تتعالى أصوات بفعل فتح فضاءات بعض القنوات، بالتنديد بالحرب ومن
أشعلها، محاولين إقناع العوام والضعاف وقليلي العلم، أن من أيقظ المارد هو من تسبب
في قتل العباد وتخريب البلاد، وجلب بفعله الويلات، وتسبب في نزوح الناس عن ديارهم،
ضاربين المثل بالخليفة عمر بن الخطاب الذي أجل تنفيذ حد السرقة في عام الرمادة،
ولم يأخذ من الناس الزكاة، وإنه لعمري قياس عجيب، محملين القراءة الاستراتيجية
لقادة المقاومة وأن اتخاذ قرار طوفان الأقصى أودى بالبلاد إلى التهلكة.
المقاومة أعدت واستعادت، ما استطاعت، وما لم نتخيل، فمن كان يحلم أن تصمد المقاومة، عشرة أشهر ولا تزال، فلو شئنا أن نحمل إحدى قراءاته الخطأ فاللوم على قادة الاحتلال وحلفائهم من الغرب والشرق، من يملكون كل أدوات القراءة الاستشرافية ودارسين لردود الفعل.
فيا أصحاب الاستدلالات، بنفس منطقكم، فإن
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن ذا رؤية ولم يقرأ المشهد عندما دفع بـ 313
مقاتلا أمام ألف من المشركين في بدر، وجانبه الصواب في أحد حين قرر الخروج
للمشركين الذين دفعوا بأشد رجالهم لرد هزيمة بدر، ومن ثم يلام على هزيمة الصحابة
في الغزوة، ولعل صلاح الدين أصابه الجنون حين قرر ملاقاة كل جيوش أوروبا بأسلحتها
الحديثة التي لم يعهدها المسلمون، فيقدر الله له أن يفتح بيت المقدس بعد أن غاب عن
المسلمين 88 عاما، وبالمثل كان قطز الذي قرر أن يواجه التتار الذين هزموا جيوش
حواضر المسلمين في بغداد ودمشق وحرقوا الأخضر واليابس، إلا أن الله قدر أن تكون عين
جالوت، واحدة من أيام الله، التي أعز الله بها المسلمين وحفظ الإسلام.
روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه
قال لما كان يوم بدر: نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أصحابه، وهم، يومئذ، ثلاثمئة ونيف، ونظر
إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل ـ صلى الله عليه وسلم ـ القبلة، ثم مد
يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: (اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز لي ما وعدتني،
اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا)، قال عمر:
فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه.
هذا تاريخنا وهذا ديننا، الذي أمرنا
بالاستعداد، بما نستطيع، ولعلي أشهد الله، أن المقاومة أعدت واستعادت، ما استطاعت،
وما لم نتخيل، فمن كان يحلم أن تصمد المقاومة، عشرة أشهر ولا تزال، فلو شئنا أن
نحمل إحدى قراءاته الخطأ فاللوم على قادة
الاحتلال وحلفائهم من الغرب والشرق، من
يملكون كل أدوات القراءة الاستشرافية والدارسين لردود الفعل.
لقد كانت الطفلة الصغيرة، بائعة الآيس كريم،
باعتزازها بالمقاومة، وفخرها بما يقوم به المقاومون، ونشرها ذلك وحديثها عنه، في
حد ذاته مقاومة، لقد كانت بائعة الآيس كريم، أشد فقهاً وعلماً ممن يدعون الثقافة
والفهم، ويدعون إجادة قراءة الواقع وحتى المستقبل، هذه العزة التي ملأت روح الطفلة
الصغيرة، إنما منبعها إيمان قوي، بأن هذه الحرب عن الإسلام والمسلمين، وترى في
أخوالها وأعمامها الذين لم تلقهم، إلا في المحادثات المصورة عبر تطبيقات التواصل
الاجتماعي، قطز وصلاح الدين، بل تراهم بعثوا من زمن النبي؛ صحابة يحملون هم هذه الأمة؛
التي ابتلاها الله بالتغريب فكتب عليها التيه، حتى تعود، إلى وصفة النبي صلى الله
عليه وسلم الذي تركها فينا، (إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً،
كتاب الله، وسنة نبيه).