قضايا وآراء

إسرائيل وحزب الله: إدارة الصراع التصاعدي

"يريد حزب الله من هذه العمليات أن يؤكد لإسرائيل أن الضربات التي وجّهتها له في الفترة الأخيرة ليست كافية لثنيه عن الاستمرار"- إكس
عند قراءة الآثار المترتبة على حادثة انفجار الأجهزة وعمليات الاغتيال في لبنان، لا بد من وضعها في سياق الحرب المستمرة منذ قرابة السنة. خلال هذه الحرب، اتفق معظم المحللين على أن مسار الجبهة الشمالية سيؤول إما إلى حرب شاملة أو حرب طويلة الأمد. من الواضح أن حزب الله يميل دائما إلى خيار الحرب طويلة الأمد، نظرا لأنها أثبتت فعالية جيدة في استنزاف إسرائيل عسكريا، واقتصاديا، واجتماعيا، مع أضرار عسكرية ومدنية محدودة في المقابل. هذا النوع من الحروب الاستنزافية يُعد قاتلا للدول والجيوش النظامية، وهو الخيار المفضل لحركات المقاومة.

على الجانب الآخر، تسعى إسرائيل إما إلى إنهاء دور الجبهة الشمالية أو شن حملة عسكرية كبيرة تفرض من خلالها واقعا عسكريا جديدا. حاولت إسرائيل، عبر الوسيط الأمريكي، منذ مرحلة مبكرة من الحرب، إنهاء الجبهة الشمالية دبلوماسيا، لكن حزب الله في لبنان أصر على مواصلة الإسناد وربط مصير الجبهة الشمالية بمصير قطاع غزة.

وهكذا، لم يبقَ أمام إسرائيل سوى خيار الحرب العسكرية. هذه الحرب قد لا تكون شاملة على مستوى المنطقة بأكملها، بل قد تبقى مقتصرة على لبنان فقط، كما كان الحال في حرب تموز/ يوليو 2006. إذ يمكن أن تقوم إسرائيل بشن حملات عسكرية متنوعة لفرض واقع عسكري وأمني جديد هناك، بهدف إعادة الحياة إلى شمال إسرائيل أولا، وإنهاء الجبهة الاستنزافية ثانيا.

خيار الحرب الشاملة لا تستطيع إسرائيل اتخاذه وحدها دون الرجوع إلى البيت الأبيض، خاصة مع احتمالية تصاعد مستوى إطلاق النار ومشاركة حلفاء حزب الله الإقليميين، بعيدا عن الرغبة الإسرائيلية

خيار الحرب الشاملة لا تستطيع إسرائيل اتخاذه وحدها دون الرجوع إلى البيت الأبيض، خاصة مع احتمالية تصاعد مستوى إطلاق النار ومشاركة حلفاء حزب الله الإقليميين، بعيدا عن الرغبة الإسرائيلية. في الآونة الأخيرة، قامت الولايات المتحدة بسحب جزء من ترسانتها العسكرية الاستراتيجية التي أرسلتها بعد تصاعد احتمالية الحرب الشاملة، بالتزامن مع ارتفاع احتمالية فوز الديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية، الذين يميلون إلى تجنب الحرب الشاملة على عكس الجمهوريين.

لذلك، يبدو أن إسرائيل لا ترغب في الدخول في حرب شاملة في ظل هذه الظروف المرتبطة بالوضع الأمريكي، لكنها تسعى في الوقت ذاته إلى "إدارة تصاعد الصراع" المحدود حاليا، مع احتمالية تفجيره لاحقا مع تغير الظروف.

إدارة الصراع بدلا من تفجيره

من دلائل عدم رغبة إسرائيل في دخول حرب شاملة أنها فرّطت في عملية تفجير الأجهزة اللاسلكية. كان يمكن لإسرائيل أن تحتفظ بهذه العملية وتستعملها كمقدمة لبدء حرب شاملة، فهذه العملية كانت لتكون كفيلة بإحداث ارتباك في صفوف حزب الله، ثم تقوم إسرائيل ببدء الحرب الشاملة بعد صدم حزب الله بعملية مشابهة لما حصل، بالإضافة إلى أن إسرائيل قامت بتعتيم إعلامي كبير على عملية يوم الأربعين التي نفذها حزب الله ردا على اغتيال فؤاد شكر. لو كانت إسرائيل تبحث عن حرب شاملة، لكان من المتوقع أن تقوم بتضخيم هذا الرد واستعماله كحجة لشن حرب شاملة في لبنان، لكنها اختارت احتواءه بدلا من ذلك.

لذلك، يبدو أن إسرائيل اختارت تصعيد الصراع بدلا من تفجيره بشكل كامل، فإدارة التصعيد التدريجي تمنح الطرف المبادر أفضلية في تشكيل المشهد، وتوفر له الوضعية المناسبة للضربة الاستباقية قبل الإعلان الرسمي عن رفع مستوى الحرب إلى الشاملة.

يبدو أن إسرائيل سعت من خلال عملية تفجير الأجهزة اللاسلكية إلى إمساك زمام الأمور في إدارة التصعيد، وربما وضعت في اعتبارها احتمال أن يقوم حزب الله بإغلاق الجبهة نهائيا تحت ضغط الخوف أو التعقل، أو بفعل الضغط الداخلي المتوقع عليه.

إسرائيل اختارت تصعيد الصراع بدلا من تفجيره بشكل كامل، فإدارة التصعيد التدريجي تمنح الطرف المبادر أفضلية في تشكيل المشهد، وتوفر له الوضعية المناسبة للضربة الاستباقية قبل الإعلان الرسمي عن رفع مستوى الحرب إلى الشاملة

وفي حال لم يغلق الحزب الجبهة، فإن الضربة على الأقل قد أعطت إسرائيل وضعية أفضلية مجددا في إدارة التصعيد، خاصة بعد قيام الحزب بعملية يوم الأربعين التي استهدفت أهم وحدات الاستخبارات الإسرائيلية، الوحدة 8200 المتخصصة في الاستخبارات الإلكترونية، وما تبعها من استقالة رئيس الوحدة بعد فترة وجيزة من الاستهداف.

مثّلت العملية ضربة موجعة للحزب على الصعيد الاستخباراتي أولا، لأنها كشفت مجددا عن قدرة إسرائيل على الخرق الاستخباراتي في مستويات وقطاعات متنوعة، لكن الجميع يعلم مسبقا تفوق إسرائيل في هذا المجال، ليس فقط على حزب الله، بل على جميع دول وأحزاب المنطقة.

ومع ذلك، قد لا تكون الضربة كارثية على المستوى العسكري، الذي يتجلى في قدرة حزب الله على الاستمرار بتنفيذ العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية. أولا، من المرجح أن "الجنود النشطين" لحزب الله لا يستخدمون البيجر، بل من المرجح أن العناصر العاديين أو الإداريين هم من يستخدمونه لغرض الاستدعاء.

تحديد نوعية المستهدفين مهم جدا في تقييم العملية، لأن استهداف العناصر المقاتلة النشطة يمثل ضربة عسكرية وليس أمنية فقط، وهذا ما يفسّر أن العدد الأكبر من الإصابات وقع في بيروت، وليس في جنوب لبنان.

فالعملية أخذت طابعا استخباراتيا في التخطيط والتنفيذ، وطابعا أمنيا في التأثير بعد التنفيذ. هذا يعني أن احتمال انهيار الجبهة اللبنانية عسكريا سبب هذه العملية تحديدا هو احتمال محدود، نظرا لضعف العملية من الناحية العسكرية.

وبالتالي، وكما نقلت وسائل إعلام إسرائيلية، لم تكن هذه العملية كافية لتحسين الوضع الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية. على سبيل المثال، لن تتمكن من إعادة المستوطنين إلى بيوتهم، وهي القضية الأهم بالنسبة للإسرائيليين فيما يتعلق بالحرب على الجبهة اللبنانية.

يمكن إضافة أن الجانب الاستخباراتي والتأثير الأمني كانا مرتبطين باختيار إسرائيل تنفيذ عملية ذات طابع دموي ومرعب بخصائص "سينمائية" إذا صح التعبير. هذا الاختيار يعكس شخصية نتنياهو الدموية، الذي يولي اهتماما كبيرا بالجوانب النفسية في الحروب. العملية كانت تهدف إلى ضرب معنويات بيئة حزب الله في لبنان، وإحداث ضغط داخلي لبناني على قرار حزب الله بإسناد غزة.

في المقابل، حاول حزب الله، خلال كلمة أمينه العام، احتواء الأثر النفسي والاجتماعي للعملية، عندما ظهر حسن نصر الله مرتاحا ومطمئنا، بهدف إعادة الثقة والتوازن إلى بيئته ومناصريه. كما حاول تحويل الضغط من مجتمعه إلى إسرائيل عندما توعّد بأن الرد على عملية البيجر قادم وسيكون مؤلما، وحاول إعطاء خصائص مميزة جديدة لعملية الرد عندما قال إنها ستكون "ما ترون لا ما تسمعون".

ميدانيا، استمر حزب الله في تنفيذ العمليات العسكرية ضد مواقع إسرائيلية في الشمال، كما زاد من القوة التدميرية للعمليات، وظهرت آثارها في مستوطنة "المطلة" حيث انقطعت الكهرباء والاتصالات جراء سقوط صواريخ ثقيلة في المستوطنة.

لكن، في اليوم التالي للكلمة، أتبعت إسرائيل عملية تفجير الأجهزة اللاسلكية بعملية اغتيال قياديين في حزب الله، من بينهم قائد قوة الرضوان إبراهيم عقل في بيروت. يشير هذا الاستهداف مجددا إلى أن إسرائيل قد اتخذت قرارا بنقل مستوى الجبهة مع لبنان إلى مستوى جديد، فقد جاءت هذه العمليات التصعيدية بالتزامن مع قرار إسرائيل نقل الفرقة 98 من الجيش من محيط قطاع غزة إلى الجليل قرب الحدود اللبنانية.

أرادت إسرائيل من خلال هذه الضربة الرد على كلمة نصر الله من وجهين: أولا، أرادت إبطال المفعول الإيجابي الذي أحدثه نصر الله في مجتمعه عندما ظهر مطمئنا وواثقا بعد عملية البيجر، بهدف احتواء الآثار المعنوية على بيئته، خاصة أنها طالت البيئة المدنية وليس العسكرية فقط، وبالتالي إعادة تحويل الضغط على حزب الله مجددا، ثانيا، أرادت زيادة الضغط على المستوى العسكري لحزب الله عندما اغتالت دائرة ضيقة في جسم حزب الله مثل إبراهيم عقل، بهدف تقويض الهيئة القيادية العسكرية، خاصة بعد تصريح نصر الله بأن عملية الرد على عملية البيجر ستظل محصورة في الدائرة الضيقة لحزب الله.

أراد حزب الله توجيه رسالة من خلال ضرب أهداف جديدة من الناحية النوعية والجغرافية، مفادها أن الضربات التي تلقاها مؤخرا لم تكن كافية لتعطيل منظومته العملياتية. كما سعى الحزب إلى استعادة الاعتبار النفسي والمعنوي بعد حالة التهويل الإعلامي بشأن اختراق إسرائيل لحزب الله عبر عمليات الأجهزة اللاسلكية والاغتيالات

مجددا، تحاول إسرائيل ألا تمنح حزب الله القدرة على إدارة الجبهة التصاعدية. بعد عملية اغتيال فؤاد شكر، حاول حزب الله شن حرب نفسية ضد إسرائيل بينما يقوم بعملية الرد، وكأن الذي يضرب في هذه الحرب ذات النسق التبادلي يفقد القدرة على المبادرة في المرة القادمة، حيث تنتقل شرعية الرد إلى الجهة المقابلة. لكن، هذه المرة، قامت إسرائيل بضربة سريعة وخاطفة، ولم تنتظر رد حزب الله على عملية البيجر.

كما أنها قامت بتسوية المبنى المستهدف في بيروت، بخلاف ما فعلت في عمليتي اغتيال العاروري وشكر، حيث استهدفت طابقا محددا من المبنى. استهداف المدنيين يشير كذلك إلى قرار إسرائيل برفع مستوى هذه الجبهة، ويساعدها على تحقيق هدفها بإنهاء الجبهة اللبنانية بشكل كامل.

في المقابل، قصف حزب الله مقر وحدة المراقبة وإدارة العمليات الجوية في قاعدة ميرون برشقات من صواريخ الكاتيوشا مباشرة بعد عملية الاغتيال، كما نفذ في اليوم التالي العديد من العمليات العسكرية ضد مواقع إسرائيلية في الجليل والجولان، بالإضافة إلى توسيع دائرة النار باستهداف قاعدة ومطار "رامات ديفيد" وشركة "رفائيل" للصناعات العسكرية في حيفا، مستخدما صواريخ فادي 1 وفادي 2 لأول مرة خلال هذه الحرب.

يريد حزب الله من هذه العمليات أن يؤكد لإسرائيل أن الضربات التي وجّهتها له في الفترة الأخيرة ليست كافية لثنيه عن الاستمرار في جبهة إسناد غزة، وأن هذه العمليات ليست الطريقة المناسبة لوقف حرب تستنزف إسرائيل وتهجّر الآلاف من مستوطنيها في الشمال.

كذلك، أراد حزب الله توجيه رسالة من خلال ضرب أهداف جديدة من الناحية النوعية والجغرافية، مفادها أن الضربات التي تلقاها مؤخرا لم تكن كافية لتعطيل منظومته العملياتية. كما سعى الحزب إلى استعادة الاعتبار النفسي والمعنوي بعد حالة التهويل الإعلامي بشأن اختراق إسرائيل لحزب الله عبر عمليات الأجهزة اللاسلكية والاغتيالات. وقد سارع الحزب إلى احتواء هذه الأجواء من خلال هذه الضربات النوعية، للتأكيد على أن الوضع ليس كارثيا كما صورته بعض الجهات.

على الصعيد السياسي، وسّعت هذه الضربات من دائرة الضرر الاستنزافي المدني في إسرائيل لتصل إلى حيفا، بعد أن كانت محدودة بمدى يصل إلى 20 كيلومترا من الحدود اللبنانية. وبالتالي، لم يكتفِ حزب الله بإبلاغ إسرائيل بأن نجاحها التكتيكي في العمليات الأخيرة لم يحقق هدفها الاستراتيجي بإعادة المستوطنين في الشمال، بل زاد من تعميق هذه الأزمة الاستراتيجية بتوسيع دائرة الضرر والاستنزاف.

معادلة جديدة للصراع
يحاول كل من حزب الله وإسرائيل قيادة إدارة النسق التصاعدي للجبهة بينهما. من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن الطرف الأكثر قدرة على امتصاص الآثار السلبية لهذه الجبهة سيكون الأكثر قدرة على إدارتها بفعالية

إذن، يرسم حزب الله في إطار هذه الحرب ذات الحسابات الدقيقة معادلة جديدة: وقف حرب غزة مقابل وقف العمليات العسكرية في شمال إسرائيل. لم تعد المعادلة: تل أبيب مقابل بيروت، بل أصبحت الاستمرار في تهجير مستوطني الشمال واستنزاف الدولة مقابل العمليات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله، مهما تصاعدت نوعيتها وكميتها.

لذلك، من المتوقع أن تقوم إسرائيل في الأيام القادمة بعمليات مشابهة من الناحية النوعية لإجبار حزب الله على ترك جبهة الإسناد. في المقابل، سيحاول حزب الله أن يفصل بين آثار هذه الضربات وبين جبهة الإسناد، التي يبدو أنه مصمم على استكمالها بعد تنفيذه عشرات العمليات إثر تفجير الأجهزة اللاسلكية والاغتيالات.

بناء على ما سبق، يبدو أن حزب الله سينتهج نفس السياسة الميدانية بعد اغتيال فؤاد شكر، إذ سيواصل إدارة جبهة الإسناد الشمالية بمعزل عن عملية الرد على تفجير الأجهزة التي توعد بها إسرائيل، أي أن حسابات الرد على الاعتداءات ستكون مختلفة عن عمليات جبهة الإسناد.

هكذا، يحاول كل من حزب الله وإسرائيل قيادة إدارة النسق التصاعدي للجبهة بينهما. من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن الطرف الأكثر قدرة على امتصاص الآثار السلبية لهذه الجبهة سيكون الأكثر قدرة على إدارتها بفعالية.

وبالتالي، يبقى السؤال: إلى أي مدى ستتحمل إسرائيل الاستنزاف المدني والاقتصادي الذي يفرضه حزب الله؟ وإلى أي مدى سيكون حزب الله قادرا على تحمل الضربات الأمنية التي تستهدف بيئته المدنية وهيكله العسكري؟

إذن، في ضوء التطورات الحالية، قد يشهد الصراع تصاعدا جديدا في العمليات العسكرية، لكن يُتوقع أن يستمر الصراع بين حزب الله وإسرائيل في إطار إدارة التصعيد والتحكم بالوضع الميداني، دون الانجرار إلى حرب شاملة.