تقارير

لماذا وقع الاختلاف على "نصر الله".. وهل هو عقائدي أم سياسي؟

الغرب والصهاينة تمكنوا من إشعال الصراعات الطائفية وتأجيج نيرانها بقوة وهو ما نشاهده بأم أعيننا الآن.. الأناضول
أظهرت حادثة اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، اختلافا واسعا وكبيرا في أوساط شعبية ونخبوية عربية عريضة حول الرجل، إذ أظهر كثير من السوريين فرحتهم الشديدة بمقتله، وهو ما عبر عنه علماء ودعاة وكتاب وصحفيون سوريون في منشوراتهم وأحاديثهم.

وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لسوريين وهم يحتفلون ويرقصون، ويوزعون الحلوى في مدينة إدلب السورية وفي الخارج فرحا وابتهاجا بمقتل حسن نصر الله، ذاكرين ما وصفوه بالجرائم البشعة التي ارتكبها عناصر حزب الله بحق أبناء الشعب السوري إبان تدخلهم في قمع الثورة السورية إلى جانب النظام السوري، وفق ما جاء في تلك المقاطع المصورة.



لكن وفي المقابل، سادت في أوساط شعبية عربية وإسلامية أخرى مشاعر الحزن والألم على اغتياله، واستذكر الكثيرون منهم مسيرته الجهادية، وأثنوا على مواقفه الداعمة والمساندة للمقاومة في غزة، وأشادوا بقراره الوقوف والاصطفاف إلى جانبها في أحلك الظروف، وإعلانه منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي جنوب لبنان كجبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة.

وفي هذا الإطار كتب الدكتور عصام البشير، نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين، ورئيس مركز الفكر الإسلامي والدراسات المعاصرة مقالا تحت عنوان "مداخل منهاجية حول الأحداث التي تمر بها الأمة المسلمة" انتقد فيه بشدة أرباب النظرات التجزيئية في التعامل مع الأحداث، والمكرسة للنظرات الضيقة على حساب النظرة الكلية العامة، التي تقتضي توحيد الجهود لمواجهة العدو الصهيوني الغاشم، واصفا قراءتهم للحدث بـأنها "قراءات تعسفية غلبت عليها العاطفة والنظر الجزئي الضيق..".


 
الاختلاف الشديد على شخصية بحجم الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وانقسام الناس لا سيما أهل السنة بشأنه، واشتعال السجالات إلى حد تبادل الاتهامات والتخوين بين مختلف الأطراف، يثير أسئلة عديدة حول أسباب ذلك الاختلاف ودوافعه، إن كانت عقائدية أم سياسية؟ ويلح كثيرا في الوقت نفسه لاختبار مدى قابلية النخب والشعوب العربية لفك الارتباط بين المسارات المختلفة، كتدخل الحزب في سوريا، وبين مواقفه الداعمة والمساندة للمقاومة في غزة وفلسطين؟

ووفقا للأكاديمي الأردني، والداعية الدكتور بشار شريف، فإن "أسباب الاختلاف حول الرجل متعددة، أولها: عقدي تاريخي يتعلق بالمذهب الشيعي، والثاني: سياسي متعلق بالتبعية لإيران وما نتج عن ذلك من مفارقة من قتل وتدمير وتهجير في سوريا والعراق، وفي مقابل ذلك دعم وإسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة".

وأضاف: "أما السبب الثالث فإعلامي؛ حيث الخطب المزلزلة والتهديد والوعيد المستمر للكيان، ثم لا يترتب على ذلك فعل متسق مع مستوى التهديد المتكرر في الخطابات، وفي تقديري هذه أبرز أسباب الاختلاف حول شخصية حسن نصر الله".


                                           الدكتور بشار شريف.. أكاديمي وداعية أردني

وردا على سؤال "عربي21" حول إمكانية فك الارتباط بين المسارات المختلفة؛ كتدخل الحزب في سوريا، ودعمه ومساندته للمقاومة في غزة، رأى شريف أن "عامة المسلمين لم يتمكنوا من فك الارتباط بين المسارات المختلفة، لأن السبب العقدي والسياسي متداخلان في ذهنية الجماهير العربية والإسلامية، ولكن ثمة محاولات لترتيب الأفكار؛ بحيث تكون منحازة لجميع المظلومين" على حد قوله.

وتابع: "بمعنى أن لا نفرق بين دم ودم.. وأن يصل للناس قناعة مفادها أن الدم الفلسطيني ليس أغلى من الدم السوري ولا العراقي ولا الليبي ولا غيرها من الدماء المعصومة.. في محاولة لكبح الخطاب العنصري المتشنج بين الشعوب المنقسمة إلى مؤيد مطلق لحزب الله، وإلى معارض مطلق له حتى وصلنا إلى معادلات صفرية ينبني عليها تخوين وتفسيق ولغة قاسية تفرق ولا تجمع".

ولفت إلى أن "المحاولات القليلة الحاصلة والمطلوبة اليوم تتمثل بتشكيل خطاب موحد يعترف للشعوب بمظلوميتها.. وفي الوقت نفسه يستفيد من بعض التحالفات المرحلية، ونحن في الحقيقة نحتاج إلى خطاب راشد من أهم مواصفاته: التفريق بين مصطلح الموالاة للكفار والمشركين ومصطلح التحالفات معهم".

ونبّه إلى ضرورة عدم "تعرض ذلك الخطاب للاختلافات العقدية بيننا وبين الشيعة على قاعدة (لكم دينكم ولي دين)، ويسعى إلى تعزيز حسن الفهم لمقاصد الدين والسياسة الشرعية ضمن فقه الموازنات، ويعزز في الوقت نفسه الجانب القيمي والأخلاقي من خلال تكريس مبدأ حسن الظن بين الشعوب، ويعلي من مستوى لغة الحوار نحو الموضوعية والاحترام المتبادل".

من جهته رأى الكاتب والباحث في التاريخ الفلسطيني أحمد الدبش، في حديث مع "عربي21"، أن معيار التنظر إلى الأطراف والدول اليوم هي الموقف من فلسطين، على اعتبار أنها معركة الأمة، وأن العدو الأساسي هو إسرائيل.

وقال الدبش: "حزب الله بقيادة الأمين العام الراحل السيد حسن نصر الله يخوض حرب إسناد للمقاومة الفلسطينية، وهي سنية بالمعايير الطائفية، ودفع ثمنا باهظا من أجل ذلك.. والحقيقة أن من يدفع ضريبة الدم اليوم هم الشيعة في لبنان وفي اليمن وليس السنة بالمقاييس المعوجة".


                                             أحمد الدبش.. كاتب ومؤرخ فلسطيني

وأكد الدبش أن "خلاف الأمة العربية والإسلامية الأساسي اليوم هو مع العدو الصهيوني، وأن كل من يصطف في هذه المعركة من مختلف التيارات السياسية أو المذاهب الدينية هو جزء منها ".

وأضاف: "البقاء عند التباينات السياسية الظرفية وعدم إدراك طبيعة المعركة التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ويسندها في ذلك حزب الله، غير سليم ولا يمكنه أن يقود إلى المواقف السليمة. ولعلي أرى في هذه السجالات خدمة لمنطق الاحتلال أكثر منها خدمة للحقيقة ولدعم المقاومة.. فمن اغتال السيد حسن نصر الله رحمه الله هو الاحتلال الصهيوني فهل يجوز الاصطفاف معه؟".

وأنهى الدبش تصريحاته لـ "عربي21" بالقول: "معركة فلسطين والأقصى اليوم هي من تمنح الشرعية وهي معيارنا في الحكم على الأطراف والمواقف، ولا مصلحة للبقاء في متردم الطائفية البغيضة"، على حد تعبيره.

من جهته أرجع الباحث السوري المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور سعد الشيخ أسباب الاختلاف حول شخصية حسن نصر الله بعد اغتياله إلى "جملة أسباب منها ما هو سياسي حركي، ومنها ما طائفي، وبعضها الآخر فكري، فبعض المعارضين لاغتياله يستندون إلى اعتقادهم أن مقتله يمثل إضعافا لحركة المقاومة الفلسطينية، نظرا لما كان يقدمه من دعم عسكري ومعنوي في الوقت الذي خذلهم فيه حلفاؤهم السنة".

وأضاف: "هذا الموقف يركز فقط على الدور الذي لعبه الرجل في المقاومة دون التطرق إلى تدخل الحزب في سوريا أو دعمه لنظام الأسد، وهو أمر مرفوض عندهم، ورغم ذلك هناك من يتجاوز في مدح الحزب بدوافع حزبية، وهي آراء قد لا تحظى بتأييد عام، وكان من الممكن أن يحظى هذا الرأي بقبول من الشارع العربي والإسلامي، وحتى من المتضررين من هذا الحزب؛ نظرا لتفهمهم مدى حاجتهم الملحة للاستعانة بأي جهة تمد لهم يد العون".


                                      د. سعد الشيخ.. باحث سوري متخصص في العلوم الشرعية

واستدرك الشيخ بالقول: "لكن هذا القبول تلاشى عندما تجاوز إعلام المقاومة الحدود في مدح الحزب وبالغ في تمجيد رؤوس القتلة المجرمين مما أسهم في توسيع الفجوة بينها وبين الموقف السنّي من المشروع الإيراني ومليشياته مثل حزب الله، حيث أدّى هذا الموقف المتطرف من إعلام المقاومة ومسانديها إلى تعميق الانقسام وزيادة التوتر في العلاقات مما أضعف الوحدة المطلوبة لمواجهة التحديات المشتركة".

وعن الأسباب الطائفية لفت الشيخ في حديثه لـ"عربي21" إلى أنه "يغلب على هذا التيار، خاصة في الدول المتضررة من حزب الله، شعور عميق بالعداء تجاه التيارات الشيعية بشكل عام، بما فيها الحزب، ويُنظر إلى دوره الطائفي ودعمه لنظام الأسد كتهديد خطير لأهل السنة، بل إنهم يرون في المشروع الشيعي الذي يدعمه الحزب خطرا أكبر من الخطر اليهودي، خصوصا في الدول التي شهدت توسع النفوذ الإيراني وميليشاته".

وذكر أن ثمة اتجاه سني عريض يميل إلى "تحليل الظاهرة الشيعية، بما في ذلك حزب الله، من منظور عقائدي حيث يعتقد أصحاب هذا الرأي أن التحركات الشيعية تنطلق من رؤية مذهبية تهدف إلى نشر التشيع والسيطرة على العالم الإسلامي، في إطار سردية تسعى إلى "الانتقام" من قتلة أهل البيت، الذين يُنظر إليهم في الرؤية الشيعية على أنهم أهل السنة".

وأردف بأن "أصحاب هذا الاتجاه يرون أن الشيعة ليست مجرد طائفة لها خلافات عقدية مع أهل السنة، بل هي في حالة حرب معهم، وتتبنى مشروعا طائفيا توسعيا يستهدف السيطرة على أربع عواصم سنية، ويغرق في دماء أهلها، مفضلين الانتقام من أهل السنة على قتال الكفار الأصليين، وبالتالي فليس الحديث عن طائفة مسالمة، بل طائفة محاربة تسعى لاجتثاث أهل السنة كما تفعل إسرائيل في غزة، بل أشد" وفق عبارته.

وأشار الباحث الشيخ إلى "وجود أسباب وظيفة، حيث يتماهى بعض الأفراد في آرائهم ومواقفهم مع مواقف حكوماتهم من حزب الله، فهؤلاء يتبعون المواقف الرسمية لحكوماتهم، سواء كانت مؤيدة أو معارضة، ويتبنون الدفاع عنها، ويشمل هذا القطاع شريحة كبيرة من المفكرين والسياسيين والشيوخ المنتسبين للدوائر الدينية الرسمية، الذين يميلون إلى الاصطفاف مع السياسة الحكومية في مواقفهم تجاه الحزب".

وفي ذات الإطار لفت الأكاديمي والباحث المصري المتخصص في الحركات الإسلامية، الدكتور كمال حبيب إلى أن "إشعال الصراعات المذهبية والطائفية جزء من تصور غربي لتفتيت وإضعاف وتمهيد السبيل للسيطرة على العقول والقلوب والأفكار داخل العالم الإسلامي حتى يسهل ضربه حينما تحين ساعة المعركة الحقيقية كما عليه الحال الآن".

وأضاف: "فالعقل الرشيد يقول إننا في معركة مصيرية، ومن المفترض معها تأجيل الصراعات الداخلية والبينية وتوحيد الجهود لمواجهة المعركة المصيرية القائمة، وهو ما يقتضي توحيد القوى والجبهات لمواجهة التحديات الاستراتيجية الأصلية، لكن للأسف نجد المعارك الهائلة التي تثور الآن بين السلفيين والشيعة وإيران وحزب الله، والاختلاف على شخصية حسن نصر الله".


            د. كمال حبيب.. أكاديمي وباحث مصري متخصص في الحركات الإسلامية

وواصل حبيب حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وهو ما يدلل بوضوح على أن الغرب والصهاينة تمكنوا من إشعال الصراعات الطائفية وتأجيج نيرانها بقوة وهو ما نشاهده بأم أعيننا الآن، وقد نجحوا طوال الفترة الماضية في تكوين كتل كبيرة توجه الرأي العام العربي للاحتفاء بالخلاف العقدي بين السنة والشيعة، والتمترس خلف المقولات العقدية والاستدعاء الدائم للخلافات والأحداث التاريخية".

ولفت إلى أن "أجهزة الإعلام الصهيونية توظف تلك الخلافات العقائدية والتاريخية وتتخذها ذريعة لتفريق صفوف المسلمين" ذاكرا أنه استمع إلى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي وهو يحث أهل السنة على قراءة منهاج السنة النبوية لابن تيمية، وقراءة كتب محمد بن عبد الوهاب التي تُحذر من خطر الشيعة، ومطالبا لهم باتباع أئمة السنة واقتفاء أثرهم والسير على طريقتهم.

وختم حديثه بالإشارة إلى أن "الانخراط في الصراعات الطائفية وتأجيجها، بكل تداعياتها المؤسفة ومآلاتها المحزنة غالبا ما يحدث على مستوى النخب والكتل المسيسية والمؤدلجة، أما الجماهير فهي في مجموعها تقف خلف المقاومة وتدعمها، وتفرح بما تفعله في مختلف الميادين أكثر من القوى المتمترسة خلف المذهبية والمتأثرة بالأيديولوجيات الطائفية".