مقالات مختارة

قوافل الشهداء وعودة الوعي

جيتي
لعب الحظ لعبته، فصادفت وحدة إسرائيلية ثلاثة مقاومين أو نحوا من ذلك، تبين في ما بعد (وفيما يزعمون إذ إن حركة حماس لم تؤكد ولم تنفِ حتى وقت كتابة المقال)، أن أحدهم هو يحيى السنوار، وإثر اشتباك جُرح فيه وبُترت يمينه في ما يبدو من الفيديو، الذي التقطته المسيرة التي أجهزت عليه في النهاية، أجرى العدو بعض التحاليل وأكد أن الشهيد هو بالفعل السنوار. المهم، على الرغم من اعترافهم ومسار الحكاية في حد ذاته الذي يثبت الدور الحاسم والأول، بل الوحيد للصدفة المحضة، فإن إسرائيل ونتنياهو وبايدن احتفلوا بذلك واعتبروه نصرا مبينا.

لم يزل الوقت مبكرا لتحليل الحدث، وما نعتقد أنها تبعاتٌ ستترتب عليه، إلا أن الأصوات المتريثة والأعقل، حتى من داخل المنظومة الإسرائيلية، سواء منها من يضطلع بدورٍ رسمي، أو المستقلون من باحثين وصحفيين، أعربت عن شكوكها في جدوى هذا الاستشهاد، مع إقرارها بثقل الضربة.

لكن، لئن كان الحظ لعب لعبته، فإن القدر يبدو أنه كان يعمل بدوره، لكن في اتجاه معاكس تماما؛ إذ إن تفاصيل الصمود والقتال حتى الرمق الأخير، سرعان ما شرعت تنشئ أسطورة نضال متصل، وصمود صلد ومبهر، فاض أثرهما على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أحاديث الناس في عالمنا العربي والإسلامي، وأزعم أن أثرها سيتسرب للعالم أجمع ولمناصري القضية الفلسطينية. لقد أُريد لنهاية هذا الرجل أن تكون نهاية المقاومة، لكن ما يبدو حتى الآن، أنه سيكون بداية أسطورةٍ ملهمة تغذي وترفد النضال والمقاومة. هناك الكثير مما يمكن أن يقال، لكن أمرين ملحين يستوقفانني في هذا الوقت المبكر عقب الاستشهاد:

أولهما: مكر التاريخ، ذكرني عرض جثة الشهيد السنوار بما حدث من قبل حين أُعدم جيفارا، وقاموا بعرض جثته أمام الصحفيين والإعلاميين، فلم يؤدِ ذلك إلا لتخليده وتكريس أسطورته، فكذلك الحال مع السنوار، فأنا على يقين من أن استشهاده مقاتلا صامدا، سيؤدي إلى نتيجة عكسية تماما لما كان يأمل فيه الصهاينة وأعوانهم وحلفاؤهم. أما ثاني الأمور: فيتعلق بما هو أهم وأعمق وأبعد أثرا في رأيي؛ الوعي الشعبي العربي والعالمي.

كتبت متناولا أكثر من مرة عن ما أسفرت عنه الحرب من عرقلة عمليات التطبيع، والانفتاح على إسرائيل التي كانت ماضية بشكل متواصل، بل كانت قد أوشكت أن تصل إلى غايتها، وما كانت ترمي وستؤدي إليه من حلف عربي إسرائيلي في مواجهة إيران؛ بالطبع فإن شيئا من هذا لم يتغير، ولم أزل عند هذا الرأي، إلا أن الأهم، هو: كيف أعادت هذه الحرب القضية الفلسطينية إلى الصدارة، وجعلت الشعوب العربية تفيق من تلك الغيبوبة المُخدرة الغبية التي فرضت نفسها وهبطت على شعوبنا طيلة عقودٍ؟ بدأت بجدية منذ سلام السادات المنفرد مع إسرائيل، ومن ثم تم تعميمها وتكريسها على أنظمة كان بعضها على علاقة فعلية مع إسرائيل، أو ينتظر بخجل أن يعلن عن عدم رغبته المضي في طريق الممانعة.

لقد علَّمَت هذه الحرب ونورت وثقفت أجيالا وُلدت ونمت وتشكل وعيها المزيف، في ظل ثقافة «حرب أكتوبر» آخر الحروب و«بطل الحرب والسلام» بطبيعة القضية والصراع، وبددت تلالا من الزيف والأكاذيب والافتراءات عنها وعن القيادات.

قيل؛ إن السنوار وهنية بعيدان محصنان، وأنهما (أو أحدهما) يسكنان قصورا هنا أو هناك في هذه العاصمة العربية أو تلك، وأنهما يتحصنان وراء الأسرى ويضحيان بجنود حماس، فكيف الحال الآن؟ وقبل ذلك في أي قصر أو برج عاجي كان يقبع الشيخ الشهيد أحمد ياسين حين استهدفته طائرة؟
شهيد يسلم شهيدا الراية، واقفون صامدون يضحون بكل شيء؛ بأنفسهم وأولادهم، هذا هو الواقع المحض.

شهيد يسلم شهيدا الراية، واقفون صامدون يضحون بكل شيء؛ بأنفسهم وأولادهم، هذا هو الواقع المحض، بغض النظر عن الانحيازات السياسية من المنطلق نفسه، فإذا أردنا أن نُعرف قمة البذاءة، فلن نجد أفضل من الإعلام العربي الرسمي، الذي تُصرف عليه مليارات الدولارات من جيب وقوت الشعوب، ليزيف وعيهم ويحشو رؤوسهم بالأكاذيب ليحتضنوا العدو الصهيوني، ويتماهوا مع قضيته ويعادوا إخوة الدم والعصب والدين والتاريخ، ولا أفضل من الحكام العرب وجلهم طغاة أيديهم مضمخة بدماء شعوبهم، ويسكنون بالفعل في قصور لا حد لها، بل يفاخرون بأنهم عاقدو العزم على بناء المزيد، «لا ده أنا حابني وابني» كما طمأننا السيسي، فنجد هؤلاء يدّعون أن قادة حماس والمقاومة يقطنون فنادق الخمسة نجوم. ها هو الرجل استشهد في الميدان مقاوما حتى آخر نفس، فما رأيكم؟

بالفعل، رمتني بدائها وانسلت! يدرك المراقبون والمحللون الأكثر حنكة، بقراءة التاريخ الذي عايشه أكثرنا، أنك لا تستطيع أن تقضي على حركة مقاومة بمجرد اغتيال قادتها، خاصة تلك التي تصدر عن عقيدة استشهادية كالتي لحماس وحزب الله، حيث وطنوا وتابِعوهم النفس على التضحية والتحرير عبر بذل ذواتهم، مادتهم الجسدية. يدركون أنه دون حلّ سياسي فليس من نهاية في الأفق.

ومع الدمار والشهداء بعشرات الآلاف، فلم يعد هناك ما يُبكى عليه، وتضاعفت بواعث السخط والرغبة في الانتقام والمقاومة. ستستمر قوافل الشهداء، لكنني، رغم كل بواعث الإحباط، لا أرى مستقبلا لا تكون فيه الشرارة التي ستوقظ الشعوب المهانة المغلوبة على أمرها، وتهز هذه الأنظمة منتهية الصلاحية منذ أمد بعيد.

القدس العربي