ملفات وتقارير

من هجمات الشمال القسنطيني إلى طوفان الأقصى.. غزة على خطى الجزائر (شاهد)

محطات الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي تتشابه مع محطات طوفان الأقصى- إنترنت
في الوقت الذي تخوض فيه المقاومة الفلسطينية حربا هي الأطول بتاريخ القضية الفلسطينية، تمر الذكرى الـ 70 للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، التي انطلقت شرارتها الأولى في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 عقب 124 سنة من استعمار فرنسا للجزائر، وانتهت بإعلان الاستقلال في الخامس من تموز/ يوليو 1962، بعد خسائر كبيرة قدم خلالها الشعب الجزائري مليون ونصف المليون جزائري.

لم تمر هذه الذكرى كسابقاتها، فالكثيرون رأوا عام الطوفان في غزة، يتطابق مع الثورة الجزائرية في الكثير من التفاصيل كالانطلاقة والأسباب وتوحش الاحتلال وفكر قادة المقاومة وصولا إلى الصدى الذي حققته، وكأن المشهد في غزة 2024 مستعاد من القرن الماضي في بلد المليون شهيد.

سراب الوعود
عانى الجزائريون طويلا من الاحتلال، كما أنهم اصطدموا بوعوده غير الحقيقية بالاستقلال، حتى مثل الثامن من أيار/ مايو 1945 صدمة دموية، فبينما كان الجزائريون ينتظرون تنفيذ الفرنسيين لوعدهم بالجلاء بعد انتهاء الحرب العالمية، قامت القوات الفرنسية بقتل 45 ألف مواطن في يوم واحد.

يحاكي تاريخ نضال الجزائريين ضد الاحتلال ما يجري في فلسطين منذ 1948 وحتى اليوم، من اتفاقية بعد أخرى ومن حلول سياسية سلمية لم تجد طريقها للتنفيذ، بل إنه على العكس توسع الاستيطان وضمت أراض جديدة وتضاعفت أعداد الشهداء والأسرى، وبات حق العودة على رف النسيان.

في الحالتين الجزائرية والفلسطينية بدا الحل السلمي بعيد المنال، ولن يحقق شيئا من تطلعات الشعبين، وهذا ما ترجمته بيانات المقاومة الفلسطينية والجزائرية حينها، على حد سواء.



ميزان القوى
خلال سنين الثورة قدر عدد قوات المقاومة الجزائرية بـ 30 ألف مقاتل، موزعين على عدة فصائل أهمها جيش التحرير الوطني، مقابل نحو 400 ألف مقاتل في الجيش الفرنسي موزعين على عدة فرق عسكرية واحتياط وألوية مظليين وقوات حفظ الأمن ومستوطنين فرنسيين.

وكذلك الحال في المقاومة الفلسطينية في غزة، التي بدأت بنضال مستمر منذ 1948 كانت فيه القوة الأكبر للاحتلال، حتى انتهى إلى المشهد الحالي، آلاف المقاتلين في غزة، مجهزون بأسلحة متوسطة وخفيفة لا تقارن بجيش الاحتلال الذي يعد الـ18 عالميا والرابع في الشرق الأوسط وفق تصنيف موقع  "غلوبال فايرباور".

الانطلاقة
في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1954 التقى القادة الستة الذين أطلقوا الثورة الجزائرية، وهم: محمد بوضياف، ومصطفى بن بولعيد، والعربي بن مهيدي، وديدوش مراد، ورابح بيطاط وكريم بلقاسم.

واختار القادة اسم "جبهة التحرير الوطني" كاسم للحركة المسلحة الساعية لاستقلال البلاد، وطرد الاحتلال الفرنسي، كما أنهم اتفقوا على أن تكون ساعة الصفر لانطلاق الثورة هي الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954.

بدأت الثورة الجزائرية بـ 1200 مقاتل و400 بندقية فقط، بعد 142 سنة من الاحتلال، حيث أطلقت الرصاصة الأولى في جبال الأوراس شرق البلاد، لترد فرنسا برد ساحق كانت بدايته حل جميع الأحزاب الجزائرية، واعتقال أكثر من 500 من أعضاء وقادة الحركة الوطنية.

وتخللت تلك الفترة سلسلة عمليات مسلحة، ضد الاحتلال الفرنسي، تبناها "جيش التحرير الوطني"، كما طاردت فرنسا قادة الثورة واغتالتهم وعلى رأسهم "ديدوش مراد وأحمد زبانة وباجي مختار".



من هجمات الشمال إلى طوفان الأقصى
الشمال القسنطيني 
مثلت هجمات 20 آب/ أغسطس 1955، منعطفا حاسما في مسيرة الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، حتى سميت في البلاد بـ "نوفمبر الثاني" كناية عن الانطلاقة الثانية للثورة المسلحة.

قاد المعركة "زيغوت يوسف" الذي تولى قيادة المنطقة الثانية في جيش التحرير الوطني، خلفا لقائده ديدوش مراد الذي استُشهد في 17 كانون الثاني/ يناير 1955.

كان يوسف مهندس تلك الهجمات والعقل المدبر لموجة "التحرير الثانية".

بدأت الهجمات منتصف نهار يوم السبت، كموعد فاجأ الفرنسيين الذين اعتادوا على مواجهة الهجمات ليلا. 

شارك في العمليات مقاومون مسلحون ببنادق صيد ومدنيون بفؤوس وعصي وبنزين وآلات حادة، وفقا للمراجع التاريخية,

وهاجموا ثكنات عسكرية وأتلفوا أعمدة الكهرباء وأحرقوا مزارع ومخازن الحبوب، في ست محافظات هي "سكيكدة، جيجل، ميلة، عنابة، قالمة ونصف من سطيف وبجاية"، وفقا لرئيس مؤسسة "زيغوت يوسف" التاريخية أحسن تليلاني، كما نقلت عنه وكالة الأناضول.

الانتقام الفرنسي
بعد الهجمات استشاط قادة الاحتلال الفرنسي غضبا، وبدأوا بالتحضير  لرد دموي على السكان المدنيين.

وأمر الحاكم العام للجزائر آنذاك جاك سوستيل، برد ساحق على الهجمات، وأرسل 17 طائرة إلى محافظة سكيكدة لقصف القرى والمناطق التي ضربت بها المقاومة قوات الاحتلال الفرنسي.

ويذكر الجزائريون مقولة فرنسية تفيد بأن "الجزائريين (نظموا الهجمات يوم 20 أغسطس وسنقتل منهم 20 ألفا)".

تشير تقديرات المؤرخين بأن عدد الضحايا فاق الـ12 ألف شهيد، نصفهم في سكيكدة، وما زالت الجرافة التي استخدمتها السلطات الفرنسية لجرف ودفن 1500 شهيد أمام ملعب وسط المدينة معروضة في مكانها كشاهد تاريخي على دموية تلك الحقبة.

خلافات داخلية
واجه مخطط هجمات الشمال انتقادات عديدة من داخل بيت الثورة الجزائرية، باعتبارها سببا في مقتل الآلاف وتوحش الاحتلال الفرنسي، حتى نظم "مؤتمر الصومام" في 20 آب/ أغسطس عام 1956، بهدف إعادة ترتيب صفوف المقاومة وتقييم العملية.

خرج المؤتمر بعدة توصيات أهمها ترقية "زيغوت يوسف" إلى رتبة عقيد بعد دفاعه ضد الهجمات وتأكيده أنها خففت الحصار عن الثورة، وأوصى المؤتمر بتقسيم البلاد إلى 6 ولايات، تتوزع بدورها إلى مناطق وكل منطقة على نواح، وكل ناحية إلى قسمات، تعمل وفق أوامر وتعليمات قيادة الثورة.

زيغوت والسنوار
ينقل المؤرخون الجزائريون عن القائد زيغوت يوسف قبيل هجمات الشمال، خطبة قال فيها: "أصبحت القضية قضية حياة أو موت، ففي أول نوفمبر كانت مسؤوليتنا تنحصر في تحرير الوطن وتنفيذ الأوامر ، لكن اليوم وجب علينا أن نختار إحدى الطريقتين: إما أن نشن غارات عامة والشمس بازغة يحدث من خلالها الانفجار الشامل، وبالتالي نحث كل الجهات على مضاعفة عملياتها، ويذاع صوت كفاحنا بكل صراحة على المستويين الداخلي والخارجي، أو أن يكون هذا بمثابة برهان بأننا عاجزون على أن نقود هذا الشعب إلى الاستقلال وبهذا نكون قد قاتلنا إلى آخر مرة، وتكون في النهاية عملية انتحارية".

و تنقل وكالة الأنباء الجزائرية عن موسى بوخميس الذي كان يقاتل برفقة زيغوت يوسف أن الأخير كان يهدف طيلة حياته إلى إعداد جيل من حديد، يلتزم أبناؤه بتعاليم الإسلام ويقدمون التضحيات الجسام من أجل سيادة الوطن.

ويقول المؤرخ الجزائري أحسن تليلاني للوكالة، إن شخصية يوسف كانت ذات شعبية كبيرة ومؤثر في محيطه، ويعزو سبب انضمام الشعب إلى جيش التحرير الوطني إلى ثقة المواطنين بقائد منطقة الشمال القسنطيني "زيغوت يوسف"، الذين كانوا يلقبونه بـسيدي أحمد، حيث كانوا يشيدون بصفاته كونه مخططا استراتيجيا وقارئا جيدا للسياسة الداخلية والخارجية وعقيدا منضبطا وملتزما بالسرية، ولهذا كان الجميع يحترمه و ينفذ أوامره، وفق قوله.

استشهد يوسف على يد الاحتلال الفرنسي خلال إحدى جولاته لتنظيم الوحدات العسكرية برفقة ثلاثة عناصر من المقاومة يوم 23 كانون الأول/ سبتمبر عام 1956 في سيدي مزغيش، بسكيكدة وعمره لم يتجاوز الـ35 سنة.


تتشابه سيرة حياة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ومخطط عملية طوفان الأقصى الشهيد يحيى السنوار وخطاباته مع القائد الجزائري زيغوت يوسف.

وذكر السنوار في خطابات عدة أن المنطقة مقبلة على حرب إقليمية تحرق الأخضر واليابس، فيما ذكر في لقاء تلفزيوني، أن الفلسطينيين جربوا كل أشكال المقاومة السلمية ولم يلتفت إليهم العالم.

ويعتبر السنوار المخطط والعقل المدبر لعملية طوفان الأقصى التي تستمر معركتها حتى يومنا، وتوشك أن تفجر حربا إقليمية تغير وجه الشرق الأوسط.

ويبدو أن نهاية الرجلين تتشابه، فيوسف الذي استشهد خلال جولة تفقدية، يتطابق رحيله مع السنوار الذي استشهد خلال معركة مع جيش الاحتلال في رفح برفقة اثنين من قادة القسام، حتى طافت صور استشهاده بسلاحه بعد أن هاجم مسيرة إسرائيلية بعصا وهو جريح، وسائل الإعلام واحتلت شاشات التلفزة على مدى أيام.



مكاسب "هجمات الشمال"
مثلت الهجمات في رأي المؤخرين الجزائريين نقطة النهاية لمشاريع الحاكم الفرنسي جاك سوستال، التي تهدف إلى دمج الجزائريين بفرنسا والقضاء على هويتهم الإسلامية العربية.

كما أنها أدت إلى تدويل  القضية الجزائرية في أعمال الجمعية العامة العاشرة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 1955.

وتنقل وكالة الأناضول عن نائب رئيس مؤسسة "زيغوت يوسف" التاريخية حميد بوشوشة أن "الهجمات غيرت مجرى التاريخ وفنّدت الادعاءات الفرنسية القائلة إن الثورة مجرد أحداث يرتكبها خارجون عن القانون".

وأضاف بوشوشة، أن مشاركة الشعب في الهجمات ومواجهته للآلة الاستعمارية في وضح النهار بصدور عارية، "كسرت حاجز الخوف وغيرت قناعات الناس وأثبتت أن الشعب الجزائري مصمم على إطلاق ثورة ضد الاستعمار الفرنسي ونيل الاستقلال".

ووفقا لوكالة الأنباء الجزائرية، فقد استطاعت هجمات الشمال، "تعزيز الدبلوماسية الجزائرية في المحافل الدولية لإسماع صوت الثورة  لتكون بذلك منعرجا حاسما في تاريخ هذه الثورة بتوسيع رقعتها وفك الحصار العسكري عنها، بالإضافة إلى تحطيم أسطورة الجيش الفرنسي الذي لا يقهر".

مكاسب طوفان الأقصى
تختلف الآراء في تقييم نتائج معركة "طوفان الأقصى" على الرغم من أنها لم تنته بعد، لكن ما يجمع عليه الكثيرون، أن المعركة خرجت بمكتسبات كان على رأسها:

إسقاط أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" التي كان الاحتلال يصدرها، بعد أن استطاع عشرات المسلحين بأسلحة خفيفة ودراجات نارية تدمير فرقة غزة، والوصول إلى مناطق عسكرية حساسة دون سابق إنذار.

ويقول الكاتب الإسرائيلي ياعوز سيبر في مقال بصحيفة "زمن" العبرية، إن الهجوم الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تبعه من أحداث على مدار العام الماضي أظهر عجز الحكومة الإسرائيلية عن حماية مواطنيها، وفشلها في وضع أي خطة لإنهاء الحرب والعودة إلى الاستقرار.

وأضاف، أن "طوفان الأقصى" خلّف حالة من الفوضى والخوف والإحباط في المجتمع الإسرائيلي، مع تصاعد التوترات الداخلية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ما يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل البلاد.

ومن مكتسبات "الطوفان"، عودة القضية الفلسطينية إلى أروقة السياسة الدولية حتى صارت الأحدث الأبرز عالميا، وتجذير كل أزمات المنطقة إليها. 

سلطت العملية الضوء عالميا على معاناة الفلسطينيين وباتت التظاهرات تجوب العواصم الغربية خصوصا في الدول الداعمة للاحتلال، وفي ذات الوقت بدت صورة الاحتلال أكثر دموية من أي وقت مضى وجعلت مواقف المسؤولين الداعمة للعدوان تهدد مستقبلهم السياسي. 



الدور المصري 
شكلت القاهرة مستقرا لجناح الثورية الجزائرية في الخارج، ولعبت مصر دورا بارزا في دفع أعضاء جامعة الدول العربية لتخصيص 12 مليار فرنك فرنسي قديم للثورة الجزائرية، وبقرار من الرئيس عبد الناصر نفسه خصصت مصر المداخيل الأولى من تأميم قناة السويس للكفاح الجزائري؛ هذه المبالغ التي وصلت إلى ثلاثة مليارات فرنك فرنسي

وقدرت أول شحنة سلاح من مصر بحوالي 8000 جنيه مصري، وتم تمريرها عن طريق ليبيا، وكانت أول صفقة سلاح من أوروبا الشرقية بتمويل مصري حوالي مليون دولار، ومعظم الأموال (75 بالمئة) التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة بـ12 مليون جنيه سنوياً كانت تأتي من مصر، وأهم التدريبات العسكرية الفعالة لجيش التحرير الوطني خارج الجزائر كانت تتم في مصر.

وبحسب المراجع التاريخية فقد كان أحمد بن بلة وفتحي الديب مندوب المخابرات المصرية مسؤولان عن التنسيق لتوفير السلاح والذخائر للثوار الجزائريين.

وكانت طرق الإيصال تعتمد على شراء الأسلحة من المهربين الدوليين عن طريق مصر، وهم يقومون بعد ذلك بإيصالها إلى أماكن محددة داخل التراب الجزائري، وفي حالة فشل عملية من عمليات الشراء يتم تزويد الثوار بالأسلحة من مخازن الجيش المصري.
 
وقارن إعلاميون مصريون بدور بلادهم في دعم المقاومة الجزائرية، والدور الحالي الذي تضطلع به مصر في ظل الحرب على غزة، وسط اتهامات لنظام السيسي بالمشاركة بحصار القطاع فضلا عن قضية السفينة "كاثرين إم" التي تنقل الذخائر لجيش الاحتلال.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع