قضايا وآراء

الثورة السورية وحديث العسكرة والسلمية‎

- جيتي
سقط نظام البعث في سوريا وهرب الطاغية بشار بصورة لم يتوقعها أحد، لم يتوقعها حلفاء بشار بوتين في روسيا والملالي في إيران، ولو توقعوا ذلك ما استثمروا فيه بمليارات الدولارات، وما أقامت روسيا القواعد الجوية والبحرية، ولم يتوقعها الغرب الذي كان يدير الحرب في سوريا بصورة تضمن استمرارها واستنزاف الجميع دون أن يستطيع طرف القضاء على الطرف الآخر، وهذا بالضبط ما كان يفعله الدبلوماسي النرويجي جير بيدرسون، منذ أن انتقل من مستشار سياسي لبلده في دولة الكيان، إلى مسؤول الأمم المتحدة عن الملف السوري.

وأكاد أجزم أن المعارضة المسلحة لبشار لم تكن تتوقع ذلك وربما لم تخطط له، وإنما كانت تريد أن توسع مناطق سيطرتها في الشمال لتسمح بعودة جزء كبير من اللاجئين، وتكون ورقة ضغط تحرك بها الأمور التي كان يبدو أن الجميع راضون بها على هذا الحال.

لكن المعارضة قامت بإصلاح كثير من الأخطاء من قبيل الاقتتال الداخلي بين فصائلها، وأقامت هيئة موحدة للقيادة "قيادة العمليات العسكرية"، واستعدت لمعركة تعرف أنه لا مفر منها، بعد أن أصبحت توجد في منطقة واحدة من مناطق خفض التصعيد الأربع، وهي المنطقة الموجودة في الشمال على الحدود التركية السورية.

قارن البعض بين وضع "أبو محمد الجولاني" أو أحمد الشرع، بعد أن عاد إلى اسمه الأصلي، ووضع د. محمد بديع، مرشد الإخوان في مصر، الذي رفع شعار سلميتنا أقوى من الرصاص، حيث يقبع الآن في السجن، وبحوزته عدد من أحكام الإعدام، رغم تقدم سنه ورفعه شعار السلمية، بينما الأول الذي وُضعت جماعته (النصرة أو هيئة تحرير الشام) على قوائم الجماعات الإرهابية، ورصدت الملايين لمن يدل عليه، هو الآن الذي يحكم سوريا. هذه المقارنة قامت على أسس غير صحيحة، ومقارنات غير عادلة.

كانت نتيجة عملية ردع العدوان، أن دخلت المعارضة حلب في 48 ساعة، وبعدها مباشرة انسحب جيش بشار من حماة، وبينما الأنظار تتجه إلى حمص، دخلت قوات المعارضة إلى دمشق، ليتبين فرار بشار إلى روسيا تاركا أقرب معاونيه لمصائرهم. الغريب في الأمر، أنه كان هناك ما يشبه القبول بما حدث أوروبيا وأمريكيا، بل وروسيا وإيرانيا!

وعلى المستوى الشعبي والإعلامي، بدأت التساؤلات، وكان أهمها ما يتعلق بسلمية الثورات وعسكرتها، والمقارنة بين ما حدث في سوريا من تغيير، وما حدث في مصر وتونس من انتكاس نتيجة التمسك بسلمية الثورة. وقارن البعض بين وضع "أبو محمد الجولاني" أو أحمد الشرع، بعد أن عاد إلى اسمه الأصلي، ووضع د. محمد بديع، مرشد الإخوان في مصر، الذي رفع شعار سلميتنا أقوى من الرصاص، حيث يقبع الآن في السجن وبحوزته عدد من أحكام الإعدام، رغم تقدم سنه ورفعه شعار السلمية، بينما الأول الذي وُضعت جماعته (النصرة أو هيئة تحرير الشام) على قوائم الجماعات الإرهابية ورصدت الملايين لمن يدل عليه، هو الآن الذي يحكم سوريا.

هذه المقارنة قامت على أسس غير صحيحة، ومقارنات غير عادلة لأسباب كثيرة:

أولها، أن الثورة السورية أيضا كان شعارها السلمية، وظلت متمسكة به قرابة 10 أشهر، رغم مواجهة النظام لها بالقتل المباشر وتوجيه السلاح إلى الرؤوس، ولم تحدث العسكرة إلا بعد أن انشق عدد كبير من الضباط من الجيش، وأعلنوا مقاومتهم للنظام.

وثانيا، أن الثورة في سوريا وحتى بعد عسكرتها، لم تستطع أن تواجه حلفاء بشار بعد أن أدار العرب لها ظهورهم، فبعد أن كادت تجتاح كل سوريا في عام 2015، تدخلت روسيا بطائراتها وإيران بالمليشيات الشيعية (حزب الله من لبنان، والنجباء من العراق، ومليشيات فاطميون وزينبيون من أفغانستان)، فتراجعت المعارضة إلى الحدود السورية التركية.

ثالثا، أن تكلفة هذه العسكرة كانت قرابة المليون شهيد، وتهجير ما يقرب من نصف الشعب السوري (أكثر من 12 مليونا) إلى كل بقاع الدنيا، وهُدمت الحواضر في حلب وحماة، وألقيت البراميل المتفجرة على المدنيين، وكعادة روسيا استعملت سياسة الأرض المحروقة.

رابعا، أن الذي حمى فصائل المقاومة بعد أن تراجعت إلى الشمال، كان الاتفاقات التي عقدتها تركيا مع إيران وروسيا لخفض التصعيد، وأقامت تركيا قواعد لها في مناطق سيطرة المعارضة، ولولا ذلك لفتكت بها المليشيات مثل ما فعلت مع فصائل المعارضة في جنوب سوريا في درعا والسويداء، حيث جرى حصارها إلى حد التجويع، حتى اضطرت إلى عقد اتفاقات مع النظام، وتركت الجنوب وذهبت إلى إدلب في الشمال.

وخامسا، أن ما أتاح الفرصة للمعارضة، هو طوفان الأقصى وتداعياته من سحب المليشيات الشيعية من سوريا، ثم إضعاف قدرات حزب الله واغتيال أمينه العام والصفوف القيادية الأولى، إلى الحد الذي دفعه للخروج من معركة إسناد غزة.

سادسا، انشغال روسيا في حرب أوكرانيا التي تقترب من إكمال عامها الثالث، مما اضطرها إلى سحب بعض قواتها من سوريا.

ينبغي على ثوار سوريا أن يكونوا على المستوى من حيث التماسك وعدم الاختلاف، ومن حيث محاسبة كل المجرمين ورموز النظام، والظن أن تركيا لن تتركهم وتحركاتها كلها تصب في هذا الاتجاه.

سابعا، الموقف التركي ليس في الدعم السياسي فقط، وإنما في مجالات الدعم اللوجستي الأخرى، إلى الدرجة التي جعلت أردوغان يعلن توجه المقاتلين إلى دمشق، في وقت كانت الأنظار موجهة فيه إلى حمص، وما أعلن عنه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، من أن تركيا أقنعت روسيا وإيران بعدم التدخل لإنقاذ الأسد.

هذا التدخل التركي، جاء نتيجة الشعور بتهديد الأمن القومي التركي، فالكيان الصهيوني لم يعد بينه وبين تركيا إلا بضع ساعات، ومحاولات إقامة كيان كردي على حدودها لم تتنازل عنها أمريكا، ويهم أردوغان أن يرتب الأمور قبل أن يدخل ترامب إلى البيت الأبيض، ثم استعادة حزب العدالة والتنمية لمكانته الشعبية، بعد أن فقد كثيرا من حاضنته بسبب اتهامه بالتخلي عن تطلعات الشعوب، وتماهيه مع الثورة المضادة في المنطقة العربية، ثم -وهذا هو الأهم-، ضغط وجود 3 ملايين مهاجر سوري في تركيا، واستثمار المعارضة لهذا الملف وتعليق كل الإخفاق الاقتصادي عليه.

ثامنا، ما زالت الأخطار تحيط بالثورة السورية ويجتمع كل الضباع لإفشالها، وها هو بيدرسون لا يكاد يغادر دمشق بعد أن كان يظل مختفيا لسنوات طالما كان نظام بشار بعيدا عن الخطر، ولهذا ينبغي على ثوار سوريا أن يكونوا على المستوى من حيث التماسك وعدم الاختلاف، ومن حيث محاسبة كل المجرمين ورموز النظام، والظن أن تركيا لن تتركهم وتحركاتها كلها تصب في هذا الاتجاه.

ونحن جميعا نحتاج أن نكون في ظهر الأحرار في سوريا؛ لأن نجاح التحول في بلد محوري من حيث الموقع والسكان، ومن حيث التاريخ والحضارة، لا بد سينعكس على كل دول المنطقة.