دائمًا كان الإسلاميون، خاصة أولئك المنتسبون لتيار الإخوان المسلمين، بحاجة إلى التفكر فيما حدث في كانون أول/ ديسمبر من العام 1987 في
فلسطين، وإن كانوا لسنوات قريبة من الحدث يحيّونه بفخر لا يخلو من إسناد ودعم، وتبجيل مستحق لهذا الحدث المذهل (طفل الحجارة في مواجهة دبابة شمشون الجبار)، لكنهم ولوقت طويل، تعاملوا مع الحدث، أو مع دلالاته، وكأنه أمر يخص الفلسطينيين وحدهم، وفي أحسن الأحوال يخص هؤلاء الواقعين تحت الاحتلال الأجنبي، كما هو الحال مع الجهاد الأفغاني؛ الذي كان محل افتخار لوقت طويل، افتخار ببندقية الكلاشنكوف التي تواجه قوة كونية مدججة بالسلاح النووي.
إذا تعلق الأمر بالممكنات، فهل يمكن للحجر أن يقارع الدبابة؟ ثمة صورة ذات دلالة رمزية هائلة على هذا المشهد الفلسطيني، فداود هنا فلسطيني، في مواجهة جالوت "الإسرائيلي"، كما رغب الكثيرون في تصوير المشهد، ما يعني أنه على مستوى الحكاية الإنسانية، ثمة تصور لقدرة الضعيف على اجتراح الفعل من صحراء العدم، وعلى المستوى الإسلامي هذه القصة أكثر حضورًا، في تضافر بديع مع بقية القصص القرآني داخل التصور الإسلامي الذي يدفع نحو القيام بالواجب، مع تصوير فذ لحجم المفارقة بين الدور المطلوب من الحق المجرد من القوة الظاهرة، في مواجهة الطغيان المدجج، {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}، هكذا يكاد يكون جل القصص القرآني، وهكذا كانت قصة نبي الإسلام، وهكذا قرأ الإخوان المسلمون كثيرًا في «في ظلال القرآن»، بيد أنه، وللمفارقة أيضًا، لم يكن بين الفلسطينيين النبي داود، ولا هم جيش يقوده ملك، فليس ثمة نبي يوحى إليه وتحوطه عناية ربانية أكيدة.
في لحظة ما، لا حقيقة للممكن، إلا القيام بالواجب، وهذا الذي فعله الفلسطينيون وإسلاميوهم في كانون أول من العام 1987، فقد كفوا عن انتظار الجيوش العربية المخلّصة، وعن رجاء حياة جديدة لصلاح الدين، أو بعث مستعجل للمهدي المنتظر، بل وكفوا عن بكاء خروج الثورة الفلسطينية من لبنان العام 1982، وتأكد إسلاميوهم، وتحديدًا الإخوان منهم، أنه لا معنى لمزيد من الانتظار، أو الإعداد، أو التربية، أو بناء المؤسسات، فحتى التجربة التربوية والإيمانية لا تتم إلا بالممارسة الجهادية، واقتحام تعقيد الواقع، وأدرك الإسلاميون أن الممارسة العملية مكون من مكونات الفكرة، وأن الجدران الموصدة تُهدم ولا يبحث فيها عن شقوق أو نوافذ، إنك إن لم تُعمل معولك في الجدار الصلد، ستبقى تائهًا تبحث عن شق فيه، وإن وجدت ستبقى محكومًا لمنطق الجدار ومن رفعه.
وإذا كان الانعزال، قد رفع جدارًا بين الإسلاميين الفلسطينيين وقضيتهم والفعل والمساهمة والتأثير فيها، فإن التسليم بواقع الجدار، أو البحث عن فرصة في شق فيه، ستلغيهم تمامًا، لأن الجدار سيزداد ارتفاعًا وسمكًا، في الوقت الذي سيخسرون فيه أنفسهم وهم ينحشرون في ذلك الشق الضيق الذي تركه لهم باني الجدار.
كانت التحديات كبيرة أمام فلسطينيي العام 1987 في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، كما كانت أكبر أمام الإخوان المسلمين الفلسطينيين الذي أعادوا صياغة أنفسهم في حركة المقاومة الإسلامية «حماس» التي بدأت بلا أي إمكانات ولا تجربة سابقة في العمل النضالي، ومن بعد الحجر والهتاف والإضراب، كانت البندقية الوحيدة التي طافت في بداية تسيعنيات القرن الماضي قطاع غزة والضفة الغربية، لنراها اليوم جيشًا مقاومًا في غزة، وحكومة، وحركة تملأ جهات الدنيا الأربع صيتًا، وكيانًا لا يمكن تجاوزه، وكل ذلك تم قبل أن تبني الحركة شبكة من العلاقات الدولية، أو تحظى بشيء من الدعم الإقليمي.
الذي فعله الفلسطينيون أنهم عادوا إلى ذواتهم، تبصّروا أجسادهم، وتحسسوا ذرعانهم، وأعادوا اكتشاف حناجرهم، ووجدوا أنهم يمكنهم رمي الحجر على الدبابة، والهتاف في المظاهرة، بينما تذكر الإسلامي الفلسطيني أنه مطالب بتقوى الله قدر الاستطاعة، وتقوى الله في هذا المقام هي القيام بواجب الجهاد، وواجب الجهاد مستطاع برمي الحجر، ففي كل الأحوال يحصل إبراء الذمة أمام الله، ويختبر المرء قدرته المجردة من القوة الظاهرة، ويبقى الأمل أن تفتح هذه التقوى، أي القيام بالواجب، بوابة العلم والرزق والفرج، وهو هنا العلم بسواء السبيل، والرزق بالسلاح، والفرج بالنصر.
لا ندري اليوم هل يستذكر الإسلاميون، خاصة في بلاد الثورات، هذا الحدث الثمانيني من القرن الماضي الذي لا يزال مستمرًا، ويكأنه آية كبرى؟ فإن استذكروه فكيف؟ فالمقام اليوم ليس مقام تفاخر بحماس الفلسطينية التي أعذرت ذلك الإسلامي العربي إلى الله، ولا بمقلاع الطفل الصغير الخارج لتوه من درسه المسجدي، وإنما بما في هذا الحدث المستمر منذ العام 1987 إلى اليوم من دلالة باهرة على قدرة الضعيف صاحب الحق، وعلى تصديق الواقع لحكاية التاريخ وقصة القرآن واستجابته للأمر الرباني.
ربما كان مفهومًا، أن يقضي الإسلاميون زمنًا في البحث عن شقوق في الجدار الذي رفعه أمامهم الطاغية الذي هو من بني جلدتهم، لكن بعد الثورات، وبعد أن تمثلوا فلسطيني العام 1987، وإن كان بلا وعي حاضر لتوه، في ساحات وميادين وشوارع تونس ومصر واليمن وسوريا، هم اليوم أحوج ما يكون للتأمل فيما فعلوه في لحظة ما، وما فعله ذلك الفلسطيني في تلك اللحظة، وهو أن الممكن الوحيد في لحظة ما هو القيام بالواجب، وسوى ذلك من بحث عن الممكنات هو هامش على هذا الممكن الأصلي، وأن من البحث عن الممكنات ما هو تقليل من الواجب أو تفريط فيه، أو من التولي الذي يوجب الاستبدال، وأن الذراع العاري قادر على هدم الجدار، لكن الجدار سميك ومرتفع، والذراع عارية، إلى درجة تتطلب وقتِا طويلاً من الضرب، ودمًا هائلاً ينزف من هذه الذراع، بيد أنه وإن استمرت الذراع في هدم الجدار، لن يترمم هذا الجدار بعد ذلك أبدًا.. إن خلاصة هذه الرسالة، لا تنتظر أيها الإخواني
المصري انشقاقًا في الجيش، ولا أنت أيها المقاتل السوري عونًا من أمريكا، فخلاصك في ذراعك، بلا مساومات، فما غدر بذراع العام 1987 إلا مساومة العام 1993.
ملاحظة ليست ختامية: أظهر الفلسطينيون في مواجهة العاصفة الجوية الأخيرة من التراحم والتكافل ما ذكرنا بشعب انتفاضة العام 1987، وأظهرت كل من حماس والجهاد بأذرعهما بما فيها المسلح في مواجهة ذات العاصفة، ذلك الدور الذي تقوم به حركات التحرر الوطني تجاه حاضنتها الشعبية، حتى إزاء الكوارث الطبيعية، وليس غريبًا أن ما يذكرنا بدور فصائل الانتفاضة الأولى هي تلك الفصائل التي استمرت على نهج الانتفاضة الأولى، ومع ذلك فإن الفلسطيني اليوم لا يقل حاجة عن أخيه العربي الثائر في استذكار آية العام 1987، وغدر المساومة، بل هو أحوج.