قبل أسبوعين من المؤتمر المرتقب في جنيف لافتتاح ورشة البحث عن حل سياسي للأزمة السورية، تكاد الأوساط المعنية جميعاً تتفق على أن التشكيك وعدم اليقين سائدان، أولاً بإمكان انعقاد المؤتمر وأيضاً بسير طبيعي للمفاوضات، وكذلك باحتمالات التوصل إلى بداية حل، ولعل هذه التحفظات تنطلق من مؤشرات سلبية ثلاثة: أولها طي مسألة أساسية هي وقف إطلاق النار كعلامة مشجعة لا لفرقاء الأزمة السوريين فحسب، بل للأطراف الدولية معهم. والثاني هو التصعيد المحموم للتدمير والتقتيل المنهجيين عبر غارات الطيران الحربي للنظام وإلقاء «البراميل المتفجرة» على حلب ومحيطها. أما الثالث فهو ثبوت ارتباط ما يسمى بـ «الدولة الإسلامية للعراق والشام» (داعش) بلعبة النظام وبأجهزة معينة فيه بغية اختراق مناطق سيطرة المعارضة وإحداث البلبلة فبها.
طبعاً يمكن أن نضيف أوضاع المعارضة التي تراجعت في الشهور الأخيرة، خصوصاً على المستوى العسكري، من دون أن يكون كيانها السياسي قد توصل إلى بلورة شيء من الثبات والتماسك والفاعلية. فهذا عامل سلبي آخر لا يحفز المعارضة على مباركة الذهاب إلى جنيف أو المراهنة عليه، ورغم اقتناع كثيرين بعقلانية المشاركة في المؤتمر أقله لتكرس المعارضة جزءاً رئيسياً من أي حل، إلا أن عوامل عدة ضغطت وستواصل الضغط لترجيح عدم المشاركة، ومنها قسوة الظروف التي يعيشها الشعب السوري، وشعوره بأن المجتمع الدولي خذله، فضلاً عن انطباع ارتسم أخيراً وهو يشي بأن الولايات المتحدة زادت ميلاً إلى وجهة النظر الروسية القائلة بوجوب الحفاظ على النظام للاعتماد عليه في محاربة الإرهاب، وهذا يعني عملياً أن الدولتين الكبريين سترجحان حلاً سياسياً أقرب إلى أطروحات النظام الذي يعتبر أن التنازل الوحيد سيقتصر على إفساح بضع حقائب وزارية في «حكومته».
كيف يمكن الانخراط في التفاوض على حل سياسي في ظل تصعيد للقتال على الأرض؟ ولماذا تخلت الأطراف الدولية، تحديداً الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا، عن فكرة وقف إطلاق النار التي طرحت سابقاً باعتبارها «ضرورية ولازمة» لعقد «جنيف2» وإنجاحه؟ المؤكد أن هذه الأطراف استندت إلى فشل تجربتين سابقتين (المبادرة العربية شباط/ نوفمبر 2011، ووساطة كوفي أنان نيسان/ أبريل 2012)، ووجدت أن صعوبات كثيرة تحول دون ترتيب وقف للنار قبل المؤتمر، وأن اتفاقاً سياسياً يمكنه وحده، إذا تم فعلاً، أن يمهد لاتفاق على وقف العمليات العسكرية. غير أن ترك الوضع الميداني سائباً بين تصعيد من النظام وحجب للدعم عن المعارضة وانفلات للمجموعات الإرهابية من شأنه أن يضعف المعتدلين الراغبين في حل سياسي لكنهم يتوقعون أن يكون «جنيف2» فرصةً لإنصاف الشعب السوري بإقدام الدول الكبرى على إحداث تغيير جوهري في مسار الأزمة.
لا شك أن تغييراً كهذا سيعكس إرادة المجتمع الدولي بأن يتحمل المسؤولية أخيراً بعد إهماله المشين للمأساة السورية، وسكوته المريب على جرائم النظام، لكنه احتمال متواضع بالنظر إلى تزكية موسكو تحديداً لحملة البراميل المتفجرة، إذ عطلت إصدار بيان عن مجلس الأمن يدينها ويدعو إلى وقفها، وقد ظهر بوضوح أن هذه تستهدف المدنيين وتقصد إسقاط عشرات القتلى يومياً، لكن تبين أيضاً أنها ترمي إلى استفزاز المعارضة كي تجنح أكثر نحو رفض «جنيف2» أو القبول بمشاركة مذلة فيه، في الحالين يعتبر النظام أنه يكسب، فالائتلاف يعفيه من مؤتمر لم يرده أصلاً إذا أحجم عن المشاركة، ويسجل نقطة لمصلحته إذا قرر
الائتلاف الذهاب إلى جنيف رغم الضربات الوحشية التي ينزلها بمناطق المعارضة، وفي موازاة ذلك فشلت كل محاولات الائتلاف المعارض للحصول على إنهاء حصار بعض المناطق وإيصال المساعدات الإنسانية إليها، فلا واشنطن التي تعهدت ذلك استطاعت إقناع موسكو، ولا هذه رغبت فعلاً في المساعدة إذ إن المسائل الإنسانية لا تعنيها.
نأتي إلى الكارثة التي تحمل اسم «داعش»، فبينها وبين النظام أصبح السوريون بين المطرقة والسندان، ففي اليوم الأول من السنة الجديدة حسم بيان للائتلاف المعارض كل جدل، مسلطاً الضوء على «العلاقة العضوية» بين النظام وهذا التنظيم الذي «سفك دماء السوريين وأزال نهائياً الشك في طبيعته وأسباب نشوئه والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها والأجندات التي يخدمها ما يؤكد طبيعة أعماله الإرهابية المعادية للثورة السورية». والواقع أن «داعش» الذي ظهر كرديف مفترض للثورة لم تسجل أي مواجهة بينه وبين قوات النظام التي لم تستهدف بدورها أياً من مواقعه بالقصف المدفعي أو الجوي. فالداعشيون حصلوا سريعاً على تعاون العاملين في أجهزة النظام الذين تواروا عن مناطقهم خلال سيطرة المعارضة ثم ظهروا فجأة، وما لبثوا أن بادروا إلى خطف وتعذيب وقتل نشطاء الثورة الذين لم يتمكن النظام من الوصول إليهم، مستنسخين أساليب «شبيحته» بل مضيفين إليها. وكان لافتاً أن تكرس الجمعة الأولى في 2014 «جمعة الشهيد أبوريان ضحية الغدر»، طبيب الأطفال الذي خطفه «داعش» وعذبه حتى الموت.
من المؤكد أن قوات المعارضة، ولاسيما «الجبهة الإسلامية»، ستتجه في الأيام المقبلة إلى معركة فرضت عليها ولم تتحسب لها. فالمواجهة مع «داعش» أصبحت محتومة بعدما انكشف دوره المعادي للشعب السوري، لكن الحديث الروسي عن «توحيد الجهود ضد الإرهاب» كأحد أهداف مؤتمر جنيف هل يعني توحيد قوات النظام مع قوى المعارضة، وكيف يمكن تحقيقه في هذه الحال إذا لم يتوفر حل سياسي متوازن وواضح في أبعاده التغييرية؟ الفكرة لا تزال عامة ومفعمة بكثير من الغموض.
(العرب القطرية 4 كانون الثاني/ يناير 2014)