قد يتناسل من "جنيف 2" "جنيف 3". وقد يجد السوريون أنفسهم في حال تفاوض مزمنة، هي عبارة عن ركض موضعي لا يتقدمون فيه شبرا.
وهو ما يشكل كسبا كبيرا للنظامين السوري والإيراني اللذين يكتسبان شرعية ووقتا وغطاء على الجرائم المتواصلة. ومع ذلك، وككل الصراعات، يبقى باب التفاوض مفتوحا طالما أن أيا من الطرفين لن يقضي على الآخر.
لمن قاطعوا "جنيف 2" وجهة نظر تحترم، ولمن يرفضون صيغ الحل السياسي كذلك. ومن يفاوضون لهم وجهة نظر لا يمكن تجاهلها. المهم ليس عملية التفاوض، بل ما يتم التفاوض عليه. وهي جولة من جولات، وليست الجولة النهائية.
حتى لو هرب بشار من القصر ولقي مصير القذافي، فإننا في ظل انقسام طائفي حاد، نحتاج معه إلى
حوار مع النظام الذي اختطف الطائفة العلوية، وصار أكثرية أبنائها يعتقدون أن مصيرهم ومستقبلهم مرتبط بالنظام، وهو ما يشرع أبواب الاحتراب والتقسيم.
المهم في الحوار ليس الأسد، فهو جزء من الماضي كما يرى أقرب حلفائه. المهم هو ما بعده. وإن كان زعيم مثل علي عبدالله صالح لا يملك امتدادا طائفيا، قادرا على تخريب فرص بناء اليمن الجديد، فكيف بزعيم يمتلك حشدا طائفيا عابرا للحدود، ودعما دوليا وإقليميا، وترسانة لا تنضب من السلاح؟!
لا يوجد من يقبل ببقاء الأسد. لكن يمكن الحوار على آليات الرحيل، ومنها عدم ترشحه لدورة رئاسية أخرى. وبعيدا عن الأوهام، يستطيع الأسد الإفلات من العقاب، ويجد في حلفائه من يؤمن له ملاذا؛ سواء في طهران أم موسكو، وحتى في دول عربية كالجزائر. لكن هو مصر على البقاء في قصره إلى أطول مدة ممكنة، وربما إلى أن يخرج منه إلى القبر.
لا أحد يجزم كيف يتصرف الطغاة. لكن من قراءة سيرهم، فإنهم يعاندون إلى آخر لحظة، وقد ينتحر أحدهم كهتلر، أو يهرب كالقذافي. لكن في الأثناء، ستراق كثير من الدماء التي يمكن حقنها بالتفاوض.
التفاوض على الرحيل مهم. وقبل الرحيل ملفات كثيرة يمكن فتحها، على رأسها ملف المفقودين، سواء في عهد الأب أو الابن. من أبسط حقوق السوريين أن يعرفوا قبور أبنائهم وآبائهم وبناتهم وأمهاتهم وزوجاتهم.
قبل "جنيف 2"، ظهرت صور لـ11 ألف مفقود، أين قبورهم؟ لم تعتقلهم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، هم في ذمة النظام حصرا. وفي التقارير الدولية، هناك منذ عهد الأب خمسة آلاف معتقل مفقود، فضلا عن آلاف أخرى دمرت أحياء حماة على رؤوسهم. ولا يستهان أيضاً بمئات المفقودين الآخرين من لبنانيين وفلسطينيين وأردنيين.
ومعرفة القبور ليست أهم من الإفراج الفوري عن آلاف المعتقلين الأحياء، منذ ما قبل الثورة وبعدها، في إطار عفو عام يضمن لهم التعويض والحياة الطبيعية.
بعد ذلك، لن يعيد السوريون اكتشاف العجلة. ولا داعي للصراع على هوية النظام المستقبلي. يمكن التفاوض على عودة دستور 1950، وهو من أرقى الدساتير العربية، وقد كُتب بإرادة حرة على يد خيرة رجالات سورية، من كل الاتجاهات والطوائف والقوميات، ويشكل قاعدة صلبة يمكن البناء عليها.
باختصار، التفاوض مع النظام مثل التفاوض مع خاطف طائرة في الجو؛ إنقاذ الركاب أولوية تتقدم على غيرها. وسورية مختطفة منذ نصف قرن، عندما استولى عسكر البعث على السلطة. والتفاوض مع الخاطف ليس تكريما له ولا خوفا منه، بل خوف على الأبرياء في سورية.