حسناً تفعل فصائل المعارضة كافةً اذا منحت «الائتلاف» فرصة كاملة للتفاوض في
جنيف، ومن حقّها أن تشعره بأنه تحت الضغط والمراقبة والنقد، لكن من دون المزايدة عليه، لأن في إمكانه الانسحاب من المفاوضات لحظة يتبيّن أن لا بارقة أمل ولو ضئيلة في تحقيق مصلحة شعب سورية.
أما التخوين والتأثيم أو سبّ أعضاء وفده والتقليل من شأنهم فلتتركها فصائل المعارضة لبثينة شعبان وفيصل المقداد وعمران الزعبي وسائر أعضاء زمرة النظام الذين يتولّونها بموجب الأوامر والتوجيهات.
أسوأ سمات الجولة الأولى من
التفاوض أن وفد النظام استعار من معمر القذافي هلوسته الشهيرة: «من أنتم؟» ليقابل بها ممثلي «الائتلاف»، وتكررت في تصريحات الزمرة عبارة «هؤلاء ليسوا سوريين». عدا أن في ذلك غطرسة واحتقاراً، فإنه يختصر جانباً كبيراً من الصراع، لأن ما حصل طوال خمسين عاماً كان تغييباً للشعب وإبرازاً لنظام عمد الى تصفية أو إقصاء كل من يستشفّ فيه نبرة مطالبة بالحرية والعدالة والكرامة. لكنه، مع ذلك، أرسل وفده ليجالس هؤلاء المقصيين، الذين يقولون: «نحن سوريون وهم سوريون، انهم لا يعرفوننا، لكننا نعرفهم جيداً، بل إن البراميل المتفجّرة وصواريخ الكيماوي عرّفت بهم». واقع الأمر أن الوفدين تجرّعا «كأس السمّ» حين التقيا، على قولة أحمد الجربا رئيس «الائتلاف».
خرج وفد النظام من الجولة الأولى محبطاً، مع مطلب عاجل من قيادته، ومن روسيا وإيران، وحتى من الأمم المتحدة. يريد واحداً من أمرين: إما استبعاد بيان «جنيف 1» كمرجعية للتفاوض، أو فتح التفاوض أمام «وفد ثالث» يمثّل «الشعب». أي شعب؟ ذلك الذي يعرفه، فلا مانع لديه من أن تحضر معارضة الداخل المدجّنة والواقعة تحت إرهابه، لأنها لن تجرؤ على المطالبة بـ «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة تشمل المؤسسات العسكرية والأمنية»، وإنما ستكتفي بالدعوة الى «اصلاحات». أي اصلاحات؟ تلك التي يحددها النظام ولا يمسّ بها هيكلية الجيش والأجهزة. ولو أفلح في تلفيق مثل هذا «الإصلاح» في ربيع العام 2011 أو صيفه، حين كانت كل عواصم العالم تلحّ عليه بأن يفعل، لكان خدع الجميع وأنقذ نفسه، ولما وصل الى جنيف أصلاً، أما أن يعود اليه اليوم بعد كل هذا القتل والدمار، فلا بدّ من أنه يحلم.
ثمة إجماع لدى المراقبين وفي كتابات المحلّلين على أن أداء وفد المعارضة فاق توقعاتهم ايجابياً. اذ ركّز على طرح «الهيئة الانتقالية» مع علمه بأنها ليست حكراً عليه، بل يجب أن تتبلور بـ «التوافق» بينه وبين الطرف الآخر. في المقابل، كان إجماع آخر على أنهم لم يلمسوا لدى وفد النظام تمثيلاً لـ «دولة»، وإلا لاتّبع استراتيجية مختلفة تماماً هدفها إبداء الاستعداد لاستيعاب من يُفترض أنهم أبناؤها. فليست هناك دولة تأتي للبحث في «حل سياسي» ثم تحوّل التفاوض مع مواطنين يطالبون بحقوقهم الى حوار بين أعداء، بل ترسل ممثليها لرميهم بأنهم حفنة من «العملاء المأجورين» وأنهم جالسون الى الطاولة فقط لأنهم «مندوبون لمموّليهم». ولا قيمة لاتهامات نظام يعرف الجميع أنه هو الآخر لا يزال موجوداً بفضل إيران التي تموّله وتقاتل بالنيابة عنه، وكذلك بفضل روسيا التي تسلّحه وتدير معركته الدولية بعقلية المافيا.
كان التوجيه الأول والنهائي لوفد النظام أن لا تفاوض على «هيئة حكم انتقالي»، لا في الجولة الأولى ولا في الجولات التالية، لأنه يعني عملياً التفاوض على تنحية بـشـار الأسـد. وكأن هـذا الـبند لا يوجد في بيان «جنيف 1»، ولا في الدعوة التي وجّهها الأمين العام للأمم المتحدة. ما يعني أن وفد النظام لم يأتِ للتفاوض بل لإدارة جدل بيزنطي حول كل شيء ولا شيء. كان ذلك متوقعاً، لذا برز اقتراح التداول أولاً في مسألة إيصال المساعدات الانسانية الى المناطق المحتاجة، من قبيل «بناء الثقة» كما يقال. لمَ لا ولتكن البداية من حمص المحاصرة منذ أكثر من ستمئة يوم. حصل ما يشبه الاتفاق في جنيف، لكن دمشق النظام استـشعـرت ما يــشبه الكارثة، ورأت في سيناريو الإغاثة «تنازلاً» رفضته منذ أيام المراقبين الدوليين، فليـس بيـن أولويـات النـظام أن يلمّع سمـعته المعنـوية، ولو أتيحـت له مقايضة إدخال المساعدات وإجلاء المـدنييـن بتـغـيير جـدول أعـمـال المفاوضات لكان أبدى ولو تـساهلاً شـكلياً. لكن الأهـم انه لو دخلت المساعدات، لسجـّل «الائـتلاف» نقـطـة لمصـلحـته ورسـالة الى جـمهـوره بأن ذهـابـه الى جنيف بدأ يثمر فكّاً للحـصارات. كان فـي الإمـكان الانتقال فوراً الى مناطق اخرى في الغوطتين، لو نجحت تجربة حمص، لكن هذا يناقض خطة النظام لإثـبات أن لا جـدوى تُرجـى من مـسـار جنيـف برمّـته.
أخفق بناء للثقة، اذاً عودة الى جدول الأعمال. سارع وفد النظام الى اشهار ورقة «محاربة الارهاب»، وقدّم ذلك باعتباره بحثاً في البند الأول من بيان «جنيف 1» الذي يطلب وقف أعمال العنف والعمليات العسكرية. كان يمكن أن يكون هناك بعض المنطق في طرح كهذا لولا أن النظام يتحمّل مسؤولية إفشال كل محاولات «وقف العنف» منذ المبادرة العربية ثم مبادرة كوفي انان اللتين سـقـطتا تـحديداً بـســبب عدم تعاون النظام، اذ أصرّ آنـذاك على روايـة «الدولة فـي مواجهة عصـابات مسلّحة»، رافضاً الاعتراف بالتظاهر السـلمي فـي عـشـرات بل مـئـات المنـاطـق كـل يـوم جمعة لأنـه ينقـض هذه الرواية. وبما أن المجتمع الدولي أخـذ عـلماً بأن الــنـظـام هو الـمـصـدر الرئـيـس للـعنف (الذي اصبح يـشـار اليه اليـوم بـ «الارهـاب»)، لـم يبادر الأخـضر الابراهـيمي الى أي محاولة جدّية لوقفه لئلا يضطر بعد فشلها الى اعلان نهاية مهمته. وللسبب نفسه، لم يدعُ الاتفاق الاميركي - الروسي (7 أيار/ مايو 2013) الى عقد مؤتمر جـنـيـف للـتفـاوض عـلى وقــف النار، بـل على «هيئة حكم انتقالي». وفي أي حال، يدفع النظام بمسألة الارهاب ظنّاً منه أنها تأشيرة تمديد لبقائه في السلطة، متجاهلاً أنه متّهمٌ بتصدير الارهاب الى العراق ثم بتفريخه في سورية وبتصدير بعضه الى لبنان. لا يمكنه أن يكون طرفاً في محاربته، والأكيد أنه لن يجد الى طاولة جـنيـف من يـستـطيع التفاوض بهذا الشأن.
أخيراً، ومع الإصرار على مناقشة بيان جنيف «بنداً بنداً»، جاءت المحاولة اليائسة حين أوحى وفد النظام بأنه مستعد للبحث في «الهيئة الانتقالية»، لكن بشروط، اذ أخرج من جعبته ما سمّاه ورقة الأسس والمبادئ العامة، وكأنه في صدد امتحان المعارضة في التربية المدنية، ومدى إيمانها بالسيادة والانتماء ووحدة الشعب والدولة الخ... وبدت تلك الورقة مستمدّة من منهجية حافظ الاسد حين كان يفاوض لمجرد التفاوض ومن دون رغبة في التوصل الى نتيجة، فيبدأ بعرض القضية منذ بدء الخليقة الى يومنا هذا ويستهلك ساعات طويلة في الكلام ليبلغ مفاوضه أن ليس لديه ما يتنازل عنه.
لعل اعلان الوزير الزعبي أن تقديم التنازلات ليس وارداً، يلخّص استراتيجية النظام للتفاوض، ما يختصر الطريق الى الاستنتاجات حتى بعد الجولات المقبلة. فوفد النظام أفصح مسبقاً عن أنه غير مخوّل البحث في «نقل السلطة»، ولذلك فإنه سيفاوض للتفاوض فيما يواصل النظام وإيران السعي الى حسم المعركة عسكرياً. أما الوفد فسيملأ الأجواء بالفقاعات، وإذا اضطر، فإنه لن يتردد بتعليق مشاركته في المفاوضات. مع ذلك، يبقى الاستنتاج الأهم أن النظام واجه مع التفاوض حقيقةً يعرفها منذ اليوم الأول، وهي أن مشكلته مع الشعب وليست مع «مؤامرة كونية» أو حتى مع الارهاب، لكن عدم اعترافه بهذه الحقيقة هو ما أوصله الى جنيف.
(الحياة اللندنية)