لم نبدأ بتسييس أحداث
أسوان، فمن بدأ بتسييسها هو سلطة الانقلاب في
مصر، عندما أعلن المتحدث العسكري أن جماعة الإخوان تقف وراء هذه الأحداث، وبحسب المنشور على لسان أحد المقربين من أهل الحكم في المحروسة، فإن مجلس الدفاع الوطني اجتمع يوم الاثنين الماضي، لبحث الدور الإخواني في الأحداث.. يكاد المريب أن يقول خذوني!.
أحداث أسوان بدأت بمشاجرة بين الدوبداية، وهي قبيلة نوبية -وإن كان
النوبيون يعترضون على إطلاق اصطلاح القبيلة عليهم- وبين قبيلة "الهلالية"، على نحو تطور ليتحول إلى معركة كبرى، يطلب على أثرها المحافظ المدد من الجيش، ويجتمع مجلس الدفاع الوطني لمناقشة ما جرى تمهيدا لتعليق التهمة في رقبة جماعة الإخوان المسلمين، وإن كان المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة قرر وقدّر وأصدر حكمه، ولهذا فإن ما يقرره مجلس الدفاع الوطني سيكون بمثابة القرار الكاشف لا المنشئ، لاتهام الانقلاب لجماعة الإخوان بأنهم وراء ما جرى.
ما جرى في محافظة أسوان أن مشاجرة انقلبت إلى معركة، ومثل هذه المشاجرات تحدث كثيرا دون تطور. وما نقله لنا الإعلام المصري، ربما ليعطي مبررا، للتصعيد المقرر سلفا على ما يبدو، أن هناك من غازل فتاة من القبيلة الأخرى فدقت طبول الحرب، قبل أن نقف على كذب هذه الراوية، الكاشفة عن تخلي الإعلام عن دوره في نقل الأحداث من على أرض الواقع، ليكون دوره هو الترويج للروايات الأمنية التي يريد الأمن شيوعها لحاجة في نفس يعقوب قضاها!.
صحيح أن فضائية "سي بي سي" الموالية للانقلاب أرسلت طاقما إلى هناك بعد خراب مالطة، وأن هذا الطاقم تعرض للاعتداء على يد شباب القبائل، لكن اللافت أن هذا الانتقال إلى أرض الأحداث، كان بعد أن قام إعلام الثورة المضادة بدور نافخ الكير، وروج لأكاذيب لا أول لها ولا آخر!.
في الصعيد تذهلك البدايات التي تبدو غير منطقية للأحداث، فخلاف بسيط قد يتطور إلى معركة، إذا لم يوجد عاقل رشيد "يكسر الشر"، لكن بدا تطور الأحداث بالنسبة لي منطقيا، فالنوبيون حملوا السلاح، وهم قلب مصر الأبيض، وقتلوا بالرصاص الحي أكثر مما قتل من جانبهم، وما حدث كان في أسوان، التي يتمتع أهلها بتنويعاتهم القبلية المختلفة بالسماحة، فليسوا كغيرهم من أهل الصعيد.
لقد كانت البداية باعتداء من قبل عدد من الصبية، على تلاميذ من النوبيين في مدرسة يدرسون فيها، قبل أن ينحاز لهم زملائهم.. وتطور الموقف إلى أن تم يوم الجمعة الماضية قتل امرأة نوبية في منزلها على يد فرد من " الهلالية"، وهي قبيلة اعتادت على مثل هذه الاعتداءات، وقد قتلت من قبل أحد النوبيين، وتم إنهاء النزاع بضغوط أمنية، وحصل النوبيون على دية بلغت مائتي ألف جنيه، كما قتلوا فردا من محافظة سوهاج، ونجحت الضغوط الأمنية في تحقيق المصالحة، بدون دية، لأنها ليست عرفا لدى الناس في سوهاج، بل إنها تدخل في إطار "العيب الاجتماعي"، وقد يقبل المرء أن يتنازل استسلاما عن الأخذ بالثأر، وما يلحقه من عار على أن يأخذ دية لقتلاه، الذين قتلوا مع سبق الإصرار والترصد.
في الصعيد، لا تقتل المرأة ثأرا، أو دفاعا عن النفس، وقتل الرجل لامرأة عامدا متعمدا يدخل في إطار "الحرام الاجتماعي"، وقد دهشت لعملية مقتل النوبية وأبنائها، وسألت وكان الرد، أن القاتل ينتمي إلى فريق متحرر من هذه القواعد القبلية المتوارثة.
وتبدو الأزمة هنا أن المرأة متزوجة من صعيدي، ومن المعلوم أن النوبة لا يقولون على أنفسهم أنهم "صعايدة"، وقديما كانوا لا يزوجون بناتهم إلا لنوبيين مثلهم، شأن قبائل أخرى، لكنهم كانوا الأقل إقداما على التحرر من هذا الموروث، ولم ينشر أو يذاع أن زوج هذه النوبية عندما عاد ليجد زوجته وأبناءه غارقين في دمائهم، استعان بأقرباء له من أحد مراكز المحافظة، ومعهم سيارات محملة بالأسلحة مرت على أكمنة للشرطة، ولم يتدخل أحد لمنعها، وكانت المعركة الحربية، التي استمرت خمس عشرة ساعة دون تدخل من جانب قوات الأمن!.
وقد نقل عن مدير أمن أسوان قوله ردا على طلب بالتدخل: "لقد جئت إلى هنا من أجل الإجهاز على الإخوان وليس لأي دور آخر".
ومن المعلوم أنه تم تعيينه في منصبه بعد فض رابعة والنهضة، وكان يشارك في كل عمليات فض المظاهرات بنفسه في أسوان، ويسرف في الاعتداء على المتظاهرين السلميين، ولم تكن تأخذه رحمة بمن سقط منهم شيء، وهناك روايات تروى هنا، تحدد طبيعة الرجل العنيفة، لكنه أسد على المتظاهرين وفي الحروب نعامة؟!
هناك ما وحد بين القبيلتين المتنازعتين، هو صب جام الغضب على تقاعس الشرطة عن التدخل، ومن الواضح أن طلب النجدة كان من الفريقين، واللافت هو ما أعلنته جهات الأمن بعد ذلك، بأنه لم يكن ممكنا التدخل لوقف المعركة، وهناك من يحمل السلاح، وأن قوات الأمن لا تتدخل في حال وجود مسلحين، ولهذا طلبت نجدة قوات الجيش التي جاءت بعد أيام. وكان هذا عذرا أقبح من ذنب.
فهذا دليل على أن المظاهرات التي يخرج مدير الأمن ليفرقها ويعتدي على من يشاركون فيها سلمية، ولو كان المتظاهرون مسلحون لما أمكنه أن يحضر!.
وهذا دليل على أن المعتصمين في رابعة لم يكونوا مسلحين، فإذا كان المبرر لعدم التدخل الأمني في أسوان هو وجود مسلحين، ولم يمنع وجود قوات الجيش من تجدد الاشتباكات يوم الأحد الماضي، والتي لم تتدخل ربما أيضا لوجود مسلحين!.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان بإمكان قوات الأمن أن توقف المجزرة؟!.
والجواب: نعم كانت لو أرادت. وقد ضغطت من قبل في موضوع قتيل سوهاج فتصالح أهله، وضغطت في موضوع قتيل النوبة، فقبل أهله الدية، ومنذ خمسة عشر عاما ووزارة الداخلية تقوم بدور وجهاء القبائل، فتعقد جلسات صلح لإنهاء المشكلات القبلية، وتطوي ملفات مرتبطة بقضايا ثأر.
ولدي يقين، لو حضرت قوات الأمن، ولو بشكل رمزي وقت تبادل إطلاق النار لسيطرت على الموقف تماما، ولمنعت نزيف الدم.
وقد شغلني لفترة طويلة كيف للرجل الصعيدي ولو كان قاتلا أن يعمل حسابا لضباط المباحث، الذي هو رمز السلطة، ويطلق على الأمن إلى الآن: "الحكومة"، وتوصلت في النهاية إلى أن الصعيدي قد يقبل أن يصدر ضده حكم بالمؤبد على أن يهان، أو أن تجرح كرامته، لأن رد الاعتبار هنا سيجعله في حرب مفتوحة، وقد يكلفه أن يتحول إلى من يطلق عليه "خط الصعيد".
لقد بدا واضحا أن ترك الأزمة تتفاقم على نحو حول خلافات بسيطة إلى حرب بين قبيلتين، صارت حديث وسائل الإعلام العالمية، وجرى تحميل الأزمة ما لا تحتمل، وتدفع بالبعض للحديث الممل عن مطلب استقلال النوبة عن مصر!.
إذا استبعدنا التقاعس الأمني عن منع السيارات المحملة بالسلاح التي جاءت لمنطقة الأحداث من خارجها، فإن التقاعس كان ينطلق من رؤية واستراتيجية!.
لقد كانت البداية عادية، لكن التطور ليس عاديا، وعدم تدخل أجهزة الأمن لمنع التصعيد يمثل علامة استفهام كبرى، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب!.
لقد كانت حملة
السيسي الانتخابية تقرر لها أن تبدأ من أسوان.. معجبا سيادته بتأييد المحافظات الحدودية، فيلتقي كثيرا وفي مناسبات مختلفة بوفود من مطروح والسلوم، وأخيرا التقي بوفد من النوبة لم يظهر منه في كل الصور المنشورة عدا شخصين اثنين أحدهما من الحزب الوطني الحاكم قبل الثورة، والثاني من حزب التجمع المتحالف مع الحزب الوطني قبل الثورة، ومع الانقلاب بعد الثورة المضادة في الثالث من يوليو، وعلمت أنه حاول والإخوان في السلطة أن ينضم إليهم، لكن محاولاته باءت بالفشل!.
وجود قوات الجيش في المحافظات الحدودية معلوم ومطلوب، لكن ربما لهذا السبب يظن السيسي أنه تحت السيطرة، وقد قال "عرّاب الانقلاب" محمد حسنين هيكل أن السيسي هو مرشح القوات المسلحة. فلم يجد هناك مبررا لأسلوب اللف والدوران!.
في إطار قيامي بمهمة صحفية للوقوف على تفاصيل الأزمة، ذكر لي مصدر، أن السيسي الذي قرر أن يبدأ حملته الانتخابية من أسوان، كان قد وصل إلى هناك في انتظار أن ترفع له العلامات، وتتزين المحافظة له، وأسوان مهمة لأن فيها من التعدد القبلي ما ليس له وجود في محافظة أخرى، ومن نوبة، لهوارة، لهلالية، لبشارية، لجعافرة، لعبابدة، لأسوالية يرون أنهم أساس البلد، لصعايدة، وسيكون مفيدا لمرشح أن يحصل على تحالف قوى الشعب القبلي، الذي تضمه محافظة أسوان.
مصادر ذكرت أن السيسي لم يكن قد سافر إلى أسوان بعد، لكنه كان يستعد للسفر، وأن الوفد النوبي الذي التقاه في القاهرة وبايعه طلب منه الحضور، والبعض قال إن حضور الوفد كان تمهيدا للزيارة.. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!.
المسألة النوبية كانت جزءا من مشروعي للدراسات العليا الذي لم يكتمل، ولي كتابات في هذا الصدد، منها مقال حمل عنوان: "النوبة قبل أن ينطق الحجر"، والثاني نشر في الراية قبل سنوات وعنوانه: "النوبة وأساطير الأولين"، وهذا الاهتمام -مع لون البشرة- ربما جعل البعض يظن أني نوبي، ولم أفاجأ بأن فضائية طلبت مني المشاركة في موضوع أحداث أسوان ممثلا للنوبة، قبل أن أصحح للداعي معلوماته!.
وأستطيع القول أن هوى النوبي معارض، وإذا كان من بين النوبيين من كانوا جزءا من الحزب الحاكم، على نحو دفعهم للتنازل عن الحقوق النوبية، فإن النشطاء النوبيين كثيرا ما صرّحوا في عهد حسني مبارك، أن أعضاء المجالس المحلية (البلدية) عن النوبة لا يمثلون النوبيين.. وفي ثورة 25 يناير كان لهم قدم صدق، وارتفع منهم شهداء وسقط منهم مصابون.
والأزمة التي استجدت تمثلت في وجود خمسة من أفراد قبيلة الدابودية في سجون الانقلاب، وهناك من قال لي أنهم ثلاثة. ويوجد بينهم أطفال، تم توجيه 22 تهمة لهم، ولو ثبتت لحكم عليهم بالإعدام.
هؤلاء استنكروا على الوفد، الذي لم يظهر منه في الصور سوى اثنين، أن يبايع السيسي، ورفضوا بالتالي فكرة الخروج لاستقباله وتأييده، عندما يبدأ من هناك حملته الانتخابية!.
وقد استقبلت الأجهزة الأمنية، التي تتولي ملف الدعاية للسيسي، هذا الرفض النوبي في نفس اللحظة التي استقبلت فيها رفض قبيلة "الهلالية"، فمثل الرفض من هنا وهنا خبطتين في الرأس، فقيل "يا داهية دقي"!.
"
الهلايل" كان يد سلطة الانقلاب التي تبطش بها، وكانت تستعين بهم للقيام بدور المواطنين الشرفاء، فيعتدي فريق منهم على المتظاهرين، ويطاردهم متحالفا مع أجهزة الأمن، وقائما بأدوار بالنيابة عنها، إلى أن سقط لهم شهيد كان يشارك في مظاهرة لدعم الشرعية، وتصرفت أجهزة الأمن بعداء شديد، عندما اعتقلت كل من تواجد في المستشفى التي نقل إليها من عائلة "الهلالية"، والذين أفرج عنهم بقرار من النيابة.
وعلمت الأجهزة الأمنية بخطأ ما ارتكبته في واقعة شهيد الهلالية الشاب "عبد الناصر عبد الفتاح"، فسعت لتدارك الموقف على طريقتها، عندما ألقت القبض على شباب شاركوا في المظاهرات، واتهمت جماعة الإخوان بقتل "عبد الفتاح عبد الناصر"، لكنها طريقة لم تنطل على "الهلالية"، الذين انقطعت علاقتهم بالدور الذي كانوا يقومون به، ورفضوا استقبال السيسي في بداية حملته الانتخابية من أسوان!.
بمفهوم أجهزة الأمن أن "الهلايل" شقوا عصا الطاعة، وهذا ليس مقبولا في العرف الأمني، ومن هنا جرى توظيف الأحداث للانتقام من الفريقين، وتوجيه ضربة قاضية "للهلايل" جزاء وفاقا.
وبحسب معلوماتي تم استدعاء قبائل شتى للمواجهة، وكل من له مشكلة قديمة معه دُفع به للانتصار لنفسه، ومعلوماتي أن القبائل رفضت أن تكون جزءا من مخطط أمني لتصفيه حسابات، وللانتصار للرفض على استقبال السيسي، وليكون درسا للجميع.
إنه نيرون يحرق المدينة.