كتب حسن أبو هنية:
يمثل
القضاء القلعة الأخيرة التي تسعى الأنظمة
الفاشية إلى تدجينها والتحكم بأجهزتها والسيطرة على أعضائها نظرا لخصوصية وحساسية المؤسسة العدلية وافتراض استقلالها وبحكم تكوين منتسبيها.
إلا أن الانقلاب العسكري في
مصر لم يجد عناء كبيرا في توجيهها والتلاعب بأحكامها، فالانقلاب الذي عمل على إعادة بناء الدولة "المباركية" التسلطية لا يكف عن التمادي في ترسيخ "الفاشية" من خلال الهيمنة والسيطرة على كافة أجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية، وإذا كان القضاء أحد آخر الأجهزة التي تسيطر عليها الفاشية تاريخيا وتستخدمها عبر استدخالها في لعبة العشق الفاشي للسلطة، فقد باتت مصر دولة فاشية بامتياز.
معركة استقلال السلطة القضائية في مصر ليست جديدة، فقد حاول قضاة إصلاحيون منذ عقود إصلاح الجهاز القضائي، وشكلت معركة إصدار قانون جديد لتنظيم القضاء أولى المعارك الكبرى لثورة 25 يناير للتخلص من أحد أدوات الدولة السلطوية، إلا أن جهود الإصلاح باءت بالفشل مع اتخاذ القضاء خطوة استباقية بحل مجلس الشعب المنتخب، كما فشل الإصلاحيون في تمرير قرار عزل النائب العام وهو منصب طالما حرص النظام السلطوي السابق للثورة على ضمان ولائه نظرا لأهميته وسعة صلاحياته وتأثيره على الجهاز القضائي.
الشكوك حول نزاهة القضاء في مصر تعاظمت عقب الانقلاب على ثورة 25 يناير 2011 التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم وفق عملية ديمقراطية حرة من خلال إصدار جملة من القرارات والأحكام بتبرئة رموز الحكم المباركي السابق في الوقت الذي تم فيه إصدار قرارات وأحكام بإدانة رموز ثورة يناير وإيداعهم المعتقلات بدءا من قيادات جماعة الإخوان وأحزاب الوسط الإسلامي مرورا بالناشطين المستقلين وانتهاء بقيادات حركة 6 إبريل.
بلغت مسألة استقلال القضاء ومصداقية أحكامه في مصر أوجها عندما أصدرت أحد محاكم "جنايات المنيا" في ثاني جلساتها في24 آذار/ مارس 2014، قرارا بإحالة أوراق 528 متهما إلى المفتي، وهو الإجراء الذي يعني الحكم بالإعدام بحسب القانون المصري، وذلك بتهمة الاعتداء على مركز "شرطة مطاي" وقتل نائب مأمور المركز، وهي الأحداث التي تلت فض سلطات الانقلاب لاعتصام مؤيدي الرئيس المنتخب محمد مرسي في ميداني رابعة والنهضة يوم 14 آب/ أغسطس 2013.
الأحكام الغرائبية للقضاء "الشامخ النزيه" للانقلاب، أثارت دهشة العالم، ولكن السؤال الجوهري، ألم يتحقق الانقلاب وفق استراتيجيات "الحرب على الإرهاب" واعتماد تكتيكات "مكافحة التمرد" وفرض حالة "الاستثناء"؟ ألم يصمت العالم الحر على الانقلاب، وعمل بعضه على إسناد الثورة المضادة ودعم الانقلاب؟ ألم يقرر مجلس وزراء الانقلاب في 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيما إرهابيا؟، تبدو دهشة العالم غرائبية كشأن الانقلابيين ومحاكمهم الفاشية، فقد بدا واضحا منذ البداية أن الانقلاب كان يؤسس لمرحلة جديدة تقطع مع مسارات الديمقراطية وتدشن نوعا حديثا من الفاشية المركبة، تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، إذ تحمل السيادة هنا معها "سلطة على الحياة" عن طريق حكم الاستثناء، كونها سلطة فوق القانون باعتباره القوة المكوِّنة لها، إضافة إلى كونها أيضاً حامية لتطبيقه.
"المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" اعتبر الحكم أمرا صادما، ويتعارض بصورة فاضحة مع أساسيات حقوق الإنسان، لا سيما الحق في الحياة وضمانات المحاكمة العادلة، وقال بأن هذا الحكم يظهر مسارعة المحاكم المصرية إلى معاقبة المعارضين للسلطة الحالية، في الوقت الذي تتجاهل فيه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تمارسها قوات الأمن المصري بشكل شبه يومي، منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، ودون وجود تحقيقات كافية في قتل قوات الأمن للكثيرين خلال عمليات فض المظاهرات، واعتبر بأن الحكم لا يمكن إخراجه عن سياق الحملة التي تستهدف وجود المعارضة السياسية وجماعة الإخوان المسلمين منذ الإطاحة بحكمها في تموز/ يوليو 2013، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 20 ألف معتقل على خلفية مناصرتهم للرئيس مرسي.
منظمة العفو الدولية أدانت الحكم على أنصار الرئيس محمد مرسي بتهمة التحريض على العنف، معتبرة أن هذا القرار "لا معنى له"، أما الأمم المتحدة فقد عبرت عن دهشتها وانتقدت الحكم، أما وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو فقد علق على القرار بقوله: "هذا القرار يوضح تماماً ما آلت إليه الأوضاع في مصر بعد الانقلاب، ومعاداة سلطة الانقلاب في مصر للديمقراطية وابتعادها عن الحقوق".
المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية ماري هارف قالت في مؤتمر صحفي بمقر الوزارة: "يتملكنا قلق شديد، بل أقول بأننا صُدمنا من صدور أحكام بالإعدام بحق 529 مواطناً مصريا لارتباطهم بمقتل شرطي واحد"، أما وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ فعبر عن قلقه بقوله: "الأنباء الواردة عن أن الكثير من المتهمين حوكموا غيابيا، وأن المدعى عليهم لم يتوفر لهم دفاع مناسب، مقلقة للغاية، وأما وزارة الخارجية الفرنسية فقد رفضت قرار الإعدام، وقالت: إن "فرنسا تابعت باهتمام إلحاق العقوبة القصوى، كما أن عقوبة الموت لا يمكن أن تكون شكلا من أشكال العدالة".
على الرغم من اندهاش العالم من نهج العدالة للانقلابيين، إلا أن عدالتهم بالتعامل مع الانقلاب ليست عادلة، ولا يمكن وصف الحكم القضائي الغرائبي بألفاظ ملتوية، ولعل أحد أكثر المواقف جرأة وتعبيرا عن الموقف جاء عن طريق الإذاعة الألمانية تعليقاً على الحكم، حيث وصفت المهزلة بالقول: "على الطريقة النازية محكمة مصرية تصدر حكما بإعدام 529 شخصا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين".
إذا كانت سلطة الانقلاب قد وصمت جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب وتعاملت مع أعضائها باعتبارهم إرهابيين فما صدر من حكم يأتي في سياق السؤال عن وضعية "الإرهاب" من حيث الإجراءات القضائية بدلا من المنظور الحقوقي، وما لازمها من التدابير السياسية التي أمكن بواسطتها تجريد كائنات بشرية كليا من حقوقها القانونيّة ووضعها السّياسيّ وتحويلها إلى مجرّد "حياة عارية"، فهذه التدابير هي التي ابتدعت في الواقع "المعتقل" بوصفه المنطقة التي يختلط فيها الداخل بالخارج، والمحظور بالمباح، والقاعدة بالاستثناء، حيث تفقد متصورات كالحق الذاتي والحماية القانونية كل معنى، فالمعتقل ليس فضاء سياسيا بالمعنى التقليدي الذي يضمن حقوق المواطن السياسية والقانونية، ويجعل من حياته "حياة مخصوصة"، وإنما هو فضاء بيوسياسي مطلق لم يتحقق من قبل، ولم يعرف له مثيل في أزمنة ما قبل الحداثة.
ذلك أن السلطان السياسي قد أضحى اليوم في مواجهة مباشرة مع الحياة خالصة عارية دون وساطة من الوساطات الرمزية المعهودة، وبهذه الصورة يُصبح "المعتقل" ذاته برادايغم الفضاء السياسي الجديد الذي تنقلب فيه السياسة إلى بيوسياسة، ويلتبس "الإنسان المقدّس" بالمواطن، وهذا الالتباس هو لا محالة نتيجة "الوضع الاستثنائي" الذي ينقلب فيه بعض الناس إلى "إنسان مقدس"، فتضحي حياتهم، أي حياة المواطن، "حياة عارية" مجردة من جميع حقوق المواطنة السياسية والحقوق الإنسانية، ويقلب هذا التجرد الجسم السياسي إلى جسم بيوسياسي، ويمهد لظهور مقولات بيوسياسية أساسية جديدة. فمتصورات من قبيل "واجب التّدخّل" و"الأمن والنظام العام" وغيرها، لا تحيل على معيار أو قاعدة، وإنما على وضع من الأوضاع، ولكنها باختراقها للمعيار والقاعدة جعلت إمكانات تطبيق القانون وإجراءاته محدودة، والمتصورات القضائية ملتبسة.
يبدو أن حالة العبث لا تزال تستبد بعقول الانقلابيين في مصر، وهم ماضون في إعادة بناء الدولة البوليسية القمعية، وبناء دولة شمولية فاشية تتحكم عبر أجهزتها العسكرية واكسسواراتها المدنية في كل شيء، وإذا كان القضاء أحد آخر الأجهزة التي تسيطر عليها الفاشية تاريخيا وتستخدمها عبر استدخالها في لعبة العشق الفاشي للسلطة، فقد باتت مصر دولة فاشية بامتياز من خلال أحكامها العجائبية.