كتب جورج سمعان: ليس في الأفق ما يشير إلى أن إدارة الرئيس باراك أوباما تتجه نحو خيارات تختلف جذرياً عما بات مألوفاً في مقارباتها لعدد من الملفات. فلا تفاقم الأزمة السورية بعد فشل مؤتمر «جنيف 2» دفعها إلى سياسة جديدة مختلفة، على رغم ما «بشر» به سيل التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية جون كيري وغيره من المسؤولين.
ولا التدخل الروسي في أوكرانيا وسيف الحرب الأهلية والتفكك اللذان يهددانها، دفعاها إلى تحرك جدي فاعل للحد من «غطرسة» الكرملين، باستثناء التلويح بمزيد من العقوبات الاقتصادية، ولا القمة التي عقدها الرئيس أوباما مع الملك عبد الله بن عبد العزيز بددت الشكوك
الخليجية في مسار الحوار بين أميركا وإيران وآفاقه ومآلاته وآثاره على الخليج والمنطقة العربية عموماً.
ليس سراً أن الإدارة أعلنت مطلع العام 2012 استراتيجية جديدة قضت أساساً بالتركيز على منطقة المحيط الهادي. الصين ليست قطباً اقتصادياً صاعداً بل تكاد تتحول قطباً عسكرياً وحيداً في المنطقة. لذلك لم تتأخر أميركا في التحرك نحو الشرق البعيد لمحاولة كسر هذه القطبية. وعززت وجودها العسكري شمال أستراليا في قواعد تسهل لها الانتشار في الإقليم. وقدمت ولا تزال تقدم دعمها لتايوان. وتعمل في المجال التجاري على ما يجمع بلدان منطقة المحيط لوقف اندفاعة بكين. لم يكن الهدف الوصول إلى مواجهة معها بقدر ما كان نشر قوس أو هلال يمكنها من احتواء طموحاتها. ولم تغفل هذه الاستراتيجية جملة من الأهداف والتحركات في أقاليم أخرى. وكان على رأسها السعي إلى إعادة ترميم علاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي. من هنا كانت أولى إطلالات الرئيس أوباما ورسائله إلى هذا العالم من القاهرة وأنقرة، ورسائله إلى الشعب
الإيراني. ثم قرار الخروج من العراق ومن أفغانستان بعد ذلك. وحماسته لحل الدولتين وتسوية القضية الفلسطينية. ولم يغفل وجوب العودة إلى إشراك روسيا والصين وأوروبا ودول إقليمية كبيرة في إدارة شؤون العالم ومعالجة أزماته. بدا واضحاً أن الهدف هو التخلص من التركة الثقيلة التي خلفتها إدارة الرئيس
جورج بوش الابن.
نهج الرئيس أوباما سياسة براغماتية بديلاً من عقائدية المحافظين الجدد التي طبعت سياسة سلفه بوش الابن وما خلفت من آثار.
قارب مهمة الحفاظ على المصالح الاستراتيجة الأميركية بسياسات تهدئة. وكان الهدف من إشراك الآخرين، شركاء وخصوماً مهما بلغت درجة خصومتهم، الانصراف لمعالجة الآثار الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي خلفتها «الحروب الاستباقية». لكن الحسابات لم تطابق الأهداف. ما سرى من تفاهم وتنسيق بين واشنطن وموسكو أيام ولاية الرئيس ديميتري ميدفيديف بددته عودة فلاديمير بوتين إلى الكرملين. وسرعان ما رفع هذا راية التحدي في وجه واشنطن، سواء في سورية أو أوكرانيا. بالطبع لا يمكن روسيا اليوم أن تبعث إرث الاتحاد السوفياتي. فأين موسكو اليوم من أيام كانت أساطيلها تجوب العالم؟ وأين هي اليوم من ذاك الانتشار الذي كان، من الهند إلى اليمن الجنوبي وأثيوبيا وليبيا وبقاع واسعة من أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا... حتى الإقدام على غزو أفغانستان؟ بالطبع لا تبعث أزمة أوكرانية المخاوف التي أقضت مضاجع الأوروبيين زمن الحرب الباردة. يكفيهم اتساع اتحادهم ومظلة «الناتو» التي تبلغ الموازنة العسكرية لدوله أكثر من عشرة أضعاف مثيلتها الروسية. لكنها بالتأكيد تشيع جواً من عدم الاستقرار في دول الاتحاد الأوروبي الذي يعاني بعض أعضائه ما يكفيه من أزمات اقتصادية تكاد تهدد مسيرته.
اختار الرئيس أوباما أن ينتقل إلى الصفوف الخلفية، تاركاً الصدارة للشركاء والأمم المتحدة. هذا ما فعل في ليبيا مخلياً إدارة الأزمة لأوروبا. وهكذا فعل في اليمن التي تولى أمرها
مجلس التعاون الخليجي، فيما تولت طائرات أميركية بلا طيار أمر جموع «القاعدة». ووثق بدور روسيا وحشد من «الأصدقاء» لتسوية الأزمة السورية. وأصر على مقاربة ديبلوماسية يعززها حصار اقتصادي متين لتسوية البرنامج النووي الإيراني. ولم ينخرط مباشرة في الحراك الذي يسود العالم العربي. ظل يراقب. في كل هذه الأزمات، وبينها ما تواجه أوكرانيا، لم يتصرف بما يوحي بأن التدخل المباشر لا بد منه للحفاظ على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. لذلك من العبث الترداد أن الرئيس الأميركي لو تدخل عسكرياً في سورية إثر استخدام النظام أسلحة كيماوية في غوطتي دمشق لكان سيد الكرملين تردد كثيراً قبل الإقدام على ما أقدم عليه في القرم. والواقع أن تعثر سياساته لم يش بأنه مستعد لانخراط ميداني فاعل أو عسكري حاسم في أي ساحة، من إخفاقات الوزير كيري في تل أبيب إلى التعامي عما يجري في سورية خصوصاً والمنطقة العربية عموماً.
الهدف الأول لإدارة أوباما هو التوصل إلى صيغة تؤمن الاستقرار في الإقليم، والحفاظ على المصالح الأميركية، خصوصاً في منطقة الخليج. وتوفر انسحاباً آمناً من أفغانستان يطوي نهائياً صفحة «مبدأ كارتر»، صفحة «قوة الانتشار السريع» التي وجدت تطبيقها على الأرض في حروب بوش الابن. لذلك لن تتراجع واشنطن عن السعي إلى الحد الأدنى من التطبيع مع طهران لتلعب هذه بعض الدور الذي كانت تؤديه أيام الشاه في حراسة الاستقرار في الخليج. وكان على الذين يتوقعون خلاف ذلك أن يعتبروا مما حدث في العراق عندما التقى الطرفان على دعم وصول نوري المالكي إلى رئاسة الحكومة قبل أربع سنوات. كان التبرير الأميركي أن لا قدرة لخصوم الجمهورية على إدارة الأوضاع في بغداد... على رغم كل ما شاب الولاية الأولى لزعيم «دولة القانون» وواصله في ولايته الثانية. والعقبة التي تعترض سياسة واشنطن اليوم هي صعوبة طمأنة حلفائها في دول مجلس التعاون وتبديد مخاوف الجمهورية الإسلامية. لا تريد العودة إلى العقود الثلاثة الماضية التي ملأت فيها مياه الخليج بعراضات القوة والتهديدات. تريد العودة إلى ما ساد السبعينيات، يوم توكأت على السعودية وعلى إيران أكثر في ضبط الاستقرار والحفاظ على مصالحها في منابع الطاقة وممراتها.
لكن هذه العودة شبه مستحيلة في ظل تبدل الظروف والأوضاع وموازين القوى في كل المنطقة... إلا إذا كان المطلوب ترك أهل الإقليم ينغمسون في صراعاتهم التي قد لا تحط رحالها إلا بعد تبديل الحدود وتفكيك الدول. وتكفي نظرة سريعة إلى خريطة الشرق لتبرز الحدود الجديدة بين الطوائف والمذاهب والإتنيات التي ترسخ «دويلاتها». ولن يعدم المولعون بنظرية «المؤامرة» الشواهد. يمكن استحضارها من الماضي القريب: ألم يدفع الغرب العراق وإيران إلى حرب ضروس انتهت بتدمير مقدرات البلدين اللذين شكلا تهديداً لمصادر الطاقة في الثمانينيات؟ ألا يكتفي الغرب بمراقبة المواجهة المفتوحة التي تستنزف «القاعدة» وفروعها مثلما تستنزف الجمهورية الإسلامية وحلفائها وأذرعها، من اليمن إلى سورية والعراق؟ هذا من دون الإشارة إلى ما تعيشه تونس وليبيا وحتى مصر ولبنان...
لكن هذه الشواهد لا يمكن أن تغيّب حقيقة أن الولايات المتحدة وجدت نفسها في نهاية المطاف أمام استحقاق جرها إلى انخراط مباشر في حربين داميتين ومكلفتين في الخليج كان بين تداعياتهما «انبعاث القاعدة» لمقاتلة الوجود الأميركي في المنطقة وما جرته من غزو لأفغانستان، وحرب على الإرهاب لم تلق أوزارها بعد. بل تزداد تشعباً واتساعاً، من جنوب اليمن إلى الصومال وسيناء والشمال الأفريقي. ولا شيء يضمن لإدارة أوباما أن يوفر لها الانسحاب من المنطقة أو تركها فريسة الصراعات الأهلية، استقراراً أو حفظاً لمصالحها ومصالح شركائها الأوروبيين والخليجيين.
إذا كانت الأوضاع ومآل الأحداث واضحة في الشرق الأقصى والمحيط الهادي... وأوكرانيا فإنها أكثر غموضاً وتعقيداً في «الشرق الأوسط الكبير». فهل يواصل أوباما سياسته التي تريد أن تطمئن أهل الخليج بإعطاء إيران المزيد بعد إخلاء العراق لها، وتصر على نشر «الدرع الصاروخية» قريباً من المنطقة فضلاً عن صواريخها وقواعدها في الخليج، لمواجهة الخطر الإيراني؟ تعطي بيد ما تريد أن تحافظ عليه باليد الأخرى! ألا يشكل السكوت على تدهور أحوال المنطقة تهديداً مباشراً لمصالح أوروبا الجارة القريبة، وعلى مصالح أميركا ومكانتها الدولية؟
أمام هذه المعطيات، وفي ظل سياسة أميركية يشوبها الغموض والتردد والتناقض والانكفاء، كان لا بد من إعادة تصحيح العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي. من مصلحة دوله كلها ألا يتفكك هذا التكتل بعد ثلاثة عقود من العمل على بناء وحدة إقليمية أثبتت التجارب التي مر بها العالم العربي أنها كانت ولا تزال ضرورية للحفاظ على المصالح المشتركة لشعوبها قبل أي شيء آخر.
منذ قيام المجلس لم تقم رؤية سياسية واحدة لكل دوله، منذ اندلاع حرب الخليج الأولى، إلى تداعيات «الربيع العربي» وما حملت وتحمل من تحديات وأخطار على هذه المنظومة، مروراً بالصراع أو الحرب الباردة بين بعض دول المجلس وإيران، كان لا بد من إعادة رص الصفوف وإن لم يتوافق المختلفون على مقاربة سياسية واحدة مما يدور في المنطقة. كان لا بد من العودة إلى التمسك بالمجلس، في زمن لا مكان فيه لغير التكتلات الإقليمية، وفي فضاء عربي مضطرب تستعد كيانات كثيرة فيه لإعادة النظر في حدود دولها الوطنية التي رسمها الغرب بين الحربين العالميتين.
هل تكون الخطوة التالية تحويل الخلافات على إيران داخل المجلس مدخلاً لحوار جماعي معها بعيداً عن حسابات واشنطن وشريكاتها؟ ألا يشكل التفاهم بين الطرفين مكسباً لهما بدل الانخراط في صراعات تستنزفهما معاً وتسهل تفتيتاً للمنطقة قد لا ينجو منه أحد؟ الحوار الذي بدا مستحيلاً بين واشنطن وطهران صار واقعاً.. فلماذا يبقى مستحيلاً بين ضفتي الخليج؟ هل تبادر سلطنة عمان؟
(الحياة اللندنية)