يطرح علي هذا السؤال الذي يفيض بالاستنكار؛ بعض من الأصدقاء الذين يملكون عدة فكرية مكينة، وينهضون بدور ثقافي متميز، رغم أنهم لا يخالفونني، غالبًا، في الموقف من الانقلاب العسكري، ولا يتخلون عن احترامهم لأنفسهم، وصدقية كلمتهم، ونزاهة دورهم، إذا ما تعلق الأمر بحقيقة الظلم الواقع على جماعة
الإخوان المسلمين، وهي صفات محمودة ومواقف مشهودة تجعل استنكارهم الذي يفصح عنه سؤالهم بلا مراوغة مستغربًا، ولا يقل عن ذلك إثارة لاستغرابي هو هذا التصور الذي لا يلاحظ تسجيلي نقدًا لجماعة الإخوان المسلمين مرات كثيرة، سواء الإخوان
المصريين، أو فروع الجماعة في الأقطار الأخرى.
إلا أن في هذا السؤال من الدلالة ما يفتح على مناقشة مفيدة، لا من موقع المدافعة، ولا بقصد البرهنة على صحة المواقف والآراء الشخصية، وإنما بقصد نسج آرائنا المختلفة تآلفا وتعارضا في شبكة تمتلك بتنوعها وتعقيدها وتعددها قدرة أكبر في التعبير عن الواقع، إن كان واقع الأحداث وأطرافها، أو واقع المعقبين على هذه الأحداث، من أن تكون خيطًا واحدًا من الفكر ينبجس في عقل صاحبه وينتهي فيه، فلا هو محيط بالواقع، ولا متصل بالمتحاورين، حتى وإن حدثهم عارضًا الفكرة ورادًّا على مستشكلها، فالأفكار الصحيحة تنسج نفسها بما يسائلها، ويعوض فيها أو يعدل، ولا تنحبس معزولة في وهم عكس الواقع وتقديم الوصفات الجاهزة لعلاجه.
لا تتضح أخطاء هذا السؤال كاملة، إلا بالإجابات التي تتورط في السجال الذي يدفع نحوه السؤال، كما ظهر في تأكيدي على وقوع النقد مني لجماعة الإخوان المسلمين، وكأنه لا يسع الإنسان إلا أن يكون مختلفًا مع الجماعة، أو ناقدًا لها! وكأنه لا يسعه أن يكون مدافعًا عنها من موقع الاقتناع لا من موقع الاتباع والتقديس! وإذا دافع عنها في قضايا معينة، أو رد نقدًا موجهًا إليها في موضوعات محددة، فإنه ملزم بأن يبين اختلافه معها في أشياء أخرى! في صورة مقابلة، ولكنها مشابهة، لاضطرار الكاتب إلى ذكر محاسن الجهة التي ينتقدها حتى وإن لم يكن المقام محتاجًا إلى ذلك، ولكن فقط للتأكيد على الإنصاف ولنفي مظنة الإجحاف ولاسترضاء الجهة الخاضعة للنقد وللتخلص من سوء الفهم... وهي مواضع ضرورة صارت شائعة ومعبرة عن البؤس الذي كثيرًا ما يعتري حواراتنا. ولكن ما الأسباب التي توجب على المرء أن يذكّر دائمًا بنقده لجماعة الإخوان المسلمين حتى لو كان في موضع رد الظلم عنها، أو مناقشة نقد موجه إليها؟!
يبدو أن ثمة مجموعة من العوامل تخلق هذه الحالة التي لا تقبل إلا التأكيد المستمر على الاختلاف مع جماعة الإخوان المسلمين، أولها: الخضوع الخفي للإرهاب الطاغي الذي مارسه خصوم الجماعة على المشهد العام بأدواتهم المتعددة، الإعلامية والثقافية والسياسية والأمنية، والقادرة ببطشها وفجرها وانعدام حيائها، والثاني: ذات المثقف التي تتأكد بمخالفة الجماعة، وهي نزعة نرجسية انعزالية لا يكاد يخلو منها مثقف، وهي في الحالة التي نتحدث عنها، تبدو واضحة في بعض من المثقفين الإسلاميين ممن هم على تخوم «الإخوان» أو خرجوا منها أو نشؤوا في فضائها، والثالث: تحول الأفكار إلى وثن يعبد يطوف حوله صاحبه متوهمًا فيه الإطلاق الأزلي فلا يقبل إلا قدرًا من موافقتها أو استرضائها.
من المؤكد أن الحديث هنا ليس عن الحاجة إلى نقد «الإخوان»، وأهمية بيان ما فيه اختلاف معها، والاضطرار إلى ذلك صدورًا عن دوافع مطلوبة حتى في معرض الدفاع عنها، فهذه بدهيات لا ينبغي أن تحيج إلى جهد في الدعوة إليها أو البرهنة على صحتها، ولكن الحديث هنا عن هذا الاستنكار لمحض الدفاع عن «الإخوان» والذي يتطلب، أي الاستنكار، استحضارًا دائمًا ومستمرًا لمواقع الاختلاف مع «الإخوان» في حال حصل الدفاع عنهم، بل وهو استنكار في بعض حالاته لا يقبل أي اختلاف مع «الإخوان»، بل لا يقبل إلا موافقته في اختلافه هو مع «الإخوان»، بمعنى هو يقدم نقدًا يفوق الكعبة قداسة، فإذا كانت الكعبة تقبل الهدم لإعادة بنائها على قواعدها الأولى، فإنه هو لا يقبل التفكيك وإعادة البناء، وإنما مطلق الموافقة والتسليم!
لا يلزم المثقف الذي في الجماعة أو كان على تخومها أو خرج منها؛ أن يؤكد على ذاته الثقافية بالاستحضار الدائم للاختلاف معها ما قد يحول دون رؤية الواقع بالقدر الممكن، فالتأكيد على الذات في مقابل الجماعة يختزل الوقائع والأحداث والفواعل فيها، فيسقط كل مؤثر آخر، كما لا يلزم من الدفاع عن الجماعة موافقتها في كل أمر والتبرير لها في كل اختيار، فجماعة الإخوان المسلمين ليست بالمذهب المغلق الذي قوامه التقليد، ولا بالمدرسة المسوّرة التي عمادها التلقين، وإنما فضاء ممتد يسع طيفًا يبتعد أوله عن آخره وتتعدد تلاوينه الفكرية، وتتنوع فيه أنماط التدين، وتكثر مهماته وأدواره، فيمكن للمرء، إلى حد بعيد، أن يوافق الجماعة ويختلف معها دون الشعور بالتناقض، ودون الاهتمام بالتأكيد على الذات في مقابلها، ويمكنه أن يدافع عنها بحماس في مواطن، ويختلف معها بحدة في مواطن أخرى، ومع ذلك قد لا يخلو الرأي من انحياز شعوري تجاه جماعة تكوّن وعي الفرد فيها، أو تبلور بتأثيرات كبيرة منها، ولا يوجد ما يستدعي نفي مثل هذه العاطفة.
فضلاً عن ذلك، فإن أسوأ ما تعرضت له الجماعة من نقد، بعد مسرحية 30 يونيو وقبلها، هو ذلك النقد الذي اختزل المشكلة فيها، غافلاً عن تعقيد الحدث، وتشابك الواقع، وكثرة العوامل، وتعدد الفواعل، وهو نقد اتسم بالإطلاقية والشعاراتية وادعاء الوصفة الجاهزة، وهو بهذا يصنع مقاتله بيده، لأنه بهذا الاختزال القاصر يفتقد أدوات الفهم والتحليل، ويعبر عن موقف ذاتي من الجماعة أكثر مما ينتقدها بخصوص الحدث، والاختلاف مع هذا النقد ورده ورفضه وتوسيع نطاق البحث ليس دفاعًا مطلقًا عن الجماعة، ولا تبريرًا لكل خياراتها وسياساتها وما أنتجته من أفكار وقدمته من خطاب.
وأخيرًا، فإنه يسع المرء أن ينخرط مع «الإخوان» في معركتهم وهو مختلف معهم، ومستوى هذا الانخراط قد يعطي انطباعًا مضللاً بالدفاع الدائم عنهم، بيد أنه لا مجال إلا مؤازرة «الإخوان» والالتحام بهم في مواجهة الطاغوت، حتى لو كان ثمة تباين معهم في بعض منطلقاتهم أو جانب من خطابهم، فإنهم اليوم الكتلة الأكبر في مواجهة انقلاب راهن عليه الاستعمار العالمي، وأدواته العميلة في المنطقة، بهدف احتواء حركة الأمة الكبرى، ما يجعل المعركة معركة الأمة كلها لا معركة «الإخوان» وحدهم، فالموقف المؤيد لهم هنا في حدود ممارستهم الثورية، وبالقدر الذي يكافئ تضحياتهم والظلم الواقع عليهم.