علق صديق لي خلال زيارته لمطار أتاتورك في
اسطنبول قائلا: كأن هذا المطار يقع في منتصف العالم، فكل الأعراق والبشر يمرون من هنا، إنه مزدحم بطريقة غريبة.
أغلبنا نزل في مطار اسطنبول وشاهد الازدحام الذي عليه المطار، مع أن هناك مطارا آخر يقع إلى الشرق من العاصمة، وفي الجانب الآسيوي منها أيضا، وكلا المطارين يستوعبان حوالي 60 مليون مسافر سنويا.
لقد وصل المطاران إلى حد التخمة، فهما لا يستطيعان استيعاب أي إضافة لأعداد الطائرات الحالية، ولهذا السبب قررت الحكومة التركية بناء مطار ثالث يستوعب 130 مليون مسافر سنويا، أي أكثر بالضعف مما يستوعبه كل من مطار أتاتورك وصبيحة مجتمعين، بتكلفة قدرها 5.6 مليار دولار.
فهذا المطار الجديد سيكون منافسا قاسيا للمطارات الأوروبية التي احتلت سوق السفر الأوروبي لعقود طويلة، وقد جاء أوان التغيير الآن، ولكن وكالعادة لا تستسلم الدول المتقدمة بسهولة ولا تضع سلاحها دون قتال، فقد أعلنت بريطانيا عن توسعة مطار هيثرو وإضافة مدرج آخر له، ويقول المسؤولون عن المشروع إن المطار سيكون بحاجة لحوالي 100 ألف وظيفة إضافية وأنه سيضخ حوالي 100 مليار جينه إسترليني سنويا في الاقتصاد البريطاني، أي حوالي 700 مليار ريال قطري.
إذن فحركة البشر في السفر والسياحة تدر ذهبا، وهذه الحركة لها ثمنها الذي يجب أن يدفعه المجتمع، فقد أصبحت
تركيا الآن الوجهة المفضلة المؤقتة للباحثين عن حياة أفضل أو الهاربين من جحيم دولهم إلى الاتحاد الأوروبي، فقد صدرت قوانين كثيرة مؤخرا تنظم مسألة إقامات الأجانب وقضايا اللجوء وغيرها من الأمور التي تصاحب التوسع في سوق السفر وجعل المطارات محطات توقف للطائرات التي تنقل كل أنواع المسافرين من الجنوب إلى الشمال أو من الشرق إلى الغرب.
لقد تغير مفهوم الوطن في الكثير من الدول، فهو لم يعد تلك القلعة الحصينة التي يجب الدفاع عنها أمام كل غاز باحث عن الغنائم، ولكنها أقرب ما تكون إلى منظومة اقتصادية تحمي مواطنيها بموجب عقود بينهم وبين الدولة، فالحاصل على الجنسية حسب الأنظمة المتبعة يحصل تلقائيا على الواجبات والحقوق التي تأتي مع حصوله على جواز السفر، وأولها الالتزام بقوانين الدولة التي تم الاتفاق عليها وإقرارها من قبل مجالسها التشريعية، ومن يتجرأ ويكسر هذه القوانين يتعرض لعقوبات قاسية جدا، وأفضل مثال أجده هو سحب الجواز كما قررت فرنسا مع مواطنيها المجنسين الذين يخالفون قوانينها.
إن الدول التي تبنت فكرة العقد بين المواطن والدولة هي التي لديها نظام تشريعي مرن وسريع وعاقل، تغذيه الكثير من المؤسسات البحثية والعلمية والاقتصادية والسياسية التي تشكل بمجملها عقلا لكل القرارات والتشريعات التي تصدر لتنظيم حركة الناس في الدولة.
إنني أضع يدي على صدري خوفا مما قد يحدث، ففي بعض دول الخليج، أو تلك التي لديها رؤية لجعل مطاراتها محطات لملايين البشر القادمين والمسافرين من أصقاع الأرض، تفتقر لأبسط التشريعات للتعامل مع وضع كهذا، ففتح المطارات لا يعني توفير البنية التحتية الخدمية لها، ولكن تعني وضع بنية تشريعية سريعة عاقلة لإصدار التشريعات والقوانين التي ستستجد مع هذا الأمر وتحديثها عندما يتطلب الأمر ذلك على حسب المتغيرات والمستجدات، فهل لدينا البنية القانونية والتشريعية لحل مشاكل عشرات الملايين من البشر الذين سيحطون في مطاراتنا بكل مشاكلهم أو تلك التي يريدون منا أن نحلها لهم؟
الدول الغربية تعمل كبوتقة لصهر الهجرات في ثقافة واحدة، فأعداد البشر فيها تسمح باستيعاب الهجرات وتشكيلها خلال جيل واحد، أما نحن في دول الخليج فلا نملك هذه الأعداد من البشر، بل إننا نقاوم الانصهار في ثقافات أخرى، وكلما نجا جيل بدأنا ندعو للجيل الذي يليه بالنجاة أيضا، ولكن هذا الأمر لن يدوم، والتغيير قادم، فما هي الثقافة التي ستغلب في نهاية الأمر؟.. لست أعرف، وليس لدي إجابة.