لم تبدأ مشكلات
حماس الناجمة عن موقعها المزدوج، الوطني الإسلامي، وما انبنى على الأول من وظيفة تمثلت في كونها حركة تحرر وطني تمارس المقاومة المسلحة والشعبية، إضافة إلى أدوارها الأخرى المحصورة في الساحة الفلسطينية من سياسية ودعوية واجتماعية ونقابية، والتي يقوم عليها فلسطينيون حصرًا داخل فلسطين وخارجها، وما انبنى على الثاني من إيمان بوحدة الأمة، وارتباط عميق بجماهيرها، وحركاتها الإسلامية التي شكلت عاضدًا مهمًا لحماس في بلدانها، ورفدتها بأشكال الدعم التي سبقت تأسيس حماس لعلاقات رسمية بالدول والحكومات واستمرت من بعد ذلك.. لم تبدأ هذه المشكلات مع
الثورة السورية.
فالحركة بقاعدتها وقيادتها، شعرت بعبء الموقع المزدوج، وما يترتب على صفتها الإسلامية من تطلعات وتوقعات في وجدان الجماهير، والقوى المتعاطفة معها والداعمة لها، وما تفتحه من إمكانات السجال والمكايدة من طرف الحركات الإسلامية الأخرى، أو محاولات كسب الحركة لصالح خطابات من شأنها أن تضر باحتياجات الثغر الذي تقف عليه الحركة ومشروعها المقاوم، فضلاً عن استحقاقات بناء العلاقات السياسية مع الجهات الرسمية والتي تحتاجها بالضرورة حركة تهدف إلى جمع الأمة على القضية الفلسطينية، وكسب الأصدقاء وتحييد الخصوم قدر الإمكان، خاصة والحديث عن حركة ملتحمة بالشعب الفلسطيني لا تنفك عنه، ولا تتصور نفسها منفصلة عنه بخطاب متعال، أو بمقاومة نخبوية، ومدركة لأهمية الممارسة السياسية في الحالة الفلسطينية، وتعقيدات القضية الفلسطينية البالغة كمًا ونوعًا، ولضرورة الهوية الفلسطينية كأداة لمواجهة الرواية الصهيونية.
عانت قاعدة الحركة أعباء الموقع المزدوج، أكثر مما عانته قيادتها، بسبب الاحتكاك المكثف مع الجمهور العام في مواقع العمل الميداني وما يفرضه من سجالات خاصة في الجامعات وبعد ذلك في المنتديات الحوارية على شبكة الإنترنت مع إسلاميين آخرين، فالإسلاميون يشعرون بوطأة السجالات فيما بينهم حتى لو كانت بعض أطراف هذه السجالات هامشية الحضور، إضافة إلى أن المشترك بين الإسلاميين واسع مهما اختلفوا، إذ أن مادتهم الأصلية واحدة، ويتنافسون على تمثيل الخطاب الإسلامي، ومن هنا تأتي مركزية سياسات الحركة في علاقاتها المحلية والإقليمية والدولية في خطاب القوى الإسلامية التي استهدفت الحركة بالانتقاد أو التبديع أو التضليل أو التكفير، وكان في مركز هذه الانتقادات علاقة الحركة بالمحور الإيراني، حيث تثير المسألة المذهبية حساسية بالغة لدى الطيف السلفي الواسع من أقربهم للحركة وأكثرهم دعمًا لها، إلى أبعدهم عنها وأكثرهم استهدافًا لها.
وكما هو شأن الجماعات
الإخوانية عمومًا؛ تفتقر حماس للتوازن ما بين العملية وإنتاج المعرفة حتى يكاد يغيب الاهتمام المعرفي لديها، وهي تتسم بالعمومية في ثقافتها الحزبية وخطابها الديني، ما يعرّض عناصرها لمصادر تأثير مختلفة دون أن يتمتعوا بعدة فكرية تناسب هذا المستوى من الاشتباك الذي يفرضه موقع الحركة المزدوج.
وبمعزل عن الخصوم والمكايدين، وإكراهات المحاور الإقليمية، والضريبة الباهظة التي تدفعها الحركة حصارًا وابتزازًا وتآمرًا بسبب مقاومتها المتعارضة مع سياسات النظام الدولي وبعض الدول الإقليمية، فإن أنصار الحركة ومحبيها وداعميها وحلفاءها وأخيرًا عناصرها ليسوا أقل استشكالاً لضرورات الموقع الوطني لحماس وسياساتها التي تمليها طبيعة ثغرها مما قد يبدو متعارضًا في ظاهره مع مقتضيات الموقع الإسلامي للحركة، وإن لم تكن هذه الاستشكالات حاضرة بنفس النسبة والدوافع لدى الأطراف المناصرة للحركة أو المتحالفة معها.
إلا أن أسئلة الموقع المزدوج صارت أكثر قسوة مع الثورة السورية، بعدما كان احتمالها وتجاوزها ممكنًا فيما سبق، فإضافة لمقاومة الحركة وعمقها الإسلامي الشعبي، فإن تحالف الحركة مع إيران وسوريا وتبعًا حزب الله، وفّر لها مكانة إقليمية بارزة تفوق قدرات الحركة التي سعت القوى الدولية والإقليمية إلى حصارها وشلّها، وإسنادًا لمقاومتها وحضورها داخل فلسطين، بيد أن هذا التحالف الذي استمر لفترات طويلة، لم يخل من خلافات أمكن تذليلها، انكشف بما أثبت أنه لا يقوم من وجهة نظر المحور الإيراني على قاعدة محددة وواحدة هي المقاومة والعمل على تحرير فلسطين، وإنما هو تحالف عام يفرض على حماس الاستجابة لاحتياجات المحور فيما يتجاوز الموضوع الفلسطيني، كأن تصطف الحركة إلى جانب النظام السوري في صراعه مع شعبه أو قسم منه، وهو ما يعني أن دعم القضية الفلسطينية من طرف هذا المحور أداة لخدمة سياساته الخاصة، أكثر مما هو موقف مبدئي ثابت.
وإذا كان النظام السوري وحلفاؤه قد اعتبروا موقف الحركة في الامتناع عن الانحياز للنظام السوري في بدايات الأزمة، هو في حقيقته اصطفاف مع الثورة السورية، فإن هذا الموقف الذي بدا محايدًا ومنسجمًا مع خط الحركة السياسي الذي ينأى بها عن الاشتغال فيما هو خارج ثغرها الفلسطيني، كان معقولاً وتوفيقيًا إلى حد كبير بين مسؤولية الحركة تجاه ثغرها الفلسطيني واحتياجات مقاومتها وبما يحفظ لها قدرة جيدة من المناورة تنطوي على ممكنات سياسية أكبر، ويبتعد بها عن صراع إقليمي قاس يفوق طاقتها ويقامر بصورتها وموقعها الأساسي في فلسطين، وبين مسؤوليتها الإيمانية والأخلاقية تجاه عمقها الشعبي إن في سوريا أو عموم الأمة.
بيد أن هذا الموقف "الوسط"لم يتسبب للحركة بمشكلات مع المحور الإيراني وحسب، وإنما أيضًا مع مناصريها وداعميها في الحركات والمجموعات الإسلامية السنية في عموم العالم الإسلامي، والتي تقف على النقيض من المحور الإيراني بخصوص الثورة السورية، والأعجب في ذلك أن قاعدة الحركة من منتسبيها كانت أكثر من شكل ضغطًا على قيادتها لاتخاذ موقف واضح في نصرة الثورة السورية والقطع النهائي مع المحور الإيراني، وبصورة لم تكن تنم عن وعي كاف بصعوبة مهمة الحركة في فلسطين، وإمكان ترتيب الأولويات وفق الاستطاعة، وعلى ضوء تقسيم وظيفي إجرائي واقعي لا أصلي يولي حماس مسؤولية فلسطين على أساس من التقسيم القهري السابق على وجودها، وتبقى مسؤولية الحركة الخارجية محكومة بفائض استطاعتها، وبهذا تتكامل مهمات المسلمين في الثغور كلها.
ولم يكن يخل هذا الضغط من تناقضات لافتة، تجيز للثورات العربية الاستعانة بالنظام الدولي الاستعماري المجرم، وبأدواته الإقليمية القمعية، بينما لا تجيز لحماس تقدير ضروراتها مع أنها تعبير عن ثورة فلسطينية مستمرة منذ أكثر من ستين عامًا، وتدفع بها إلى خيارات بالغة الضيق ولا يمكنها أن تشكل رافدًا كبيرًا وواضحًا لمقاومتها، بما دلّ على قصور في إدراك التحولات التي تجري في المنطقة والموقف الحقيقي للعالم الاستعماري منها، والذي تأكد الآن باستهدافه لهذه الثورات بالاحتواء وإعادة التشكيل والاستنزاف والسعي للقضاء على الحركة الإسلامية مستعينًا بأدواته الإقليمية التي لم يتخلّ عنها وإن غيرّ وجوه بعضها.
وعدم الوعي الكافي برؤية النظام الدولي الاستعماري للثورات العربية، واحتمالات التدافع المحلي والإقليمي في هذه الحركة التاريخية الكبرى، أفضى إلى قدر من الاطمئنان إلى نوايا النظام الدولي والتعويل المستعجل على نجاحات سهلة وناعمة لبواكير الثورات العربية، وضع الحركة الإسلامية على مذابح المجرمين، وحوّل حماس إلى موقع المحاصر الذي ينتظر مآلات التحولات بعدة من الأماني والرغبات، بعدما كانت فاعلاً إقليميًا وازنًا.