تمخض
الانقلاب فلولد فأراً ميتاً؛ فبعد مخاض عسير، وبعد أن كلف عبد الفتاح
السيسي بعد انتخابه رئيساً، إبراهيم
محلب بتشكيل
الحكومة، إذا بنا أمام حكومة، تذكرنا بحكومات عصر مبارك، ليؤكد لنا التشكيل ما لا يحتاج إلى تأكيد، أن السيسي هو الامتداد الطبيعي لزمن مبارك، وأن علاقته منبتة بثورة يناير!.
عندما أخذنا علي "قائد الانقلاب" أنه جاء بواحد ينتمي لعهد المخلوع ونصبه رئيساً للوزراء، قيل لنا أن الاختيار تم من قبل عدلي منصور، فهو رئيس الدولة، وما عبد الفتاح السيسي إلا وزيراً، كغيره من الوزراء. وهو كلام كان يتكرر عندما ي نتحدث عن فشل هذا الانقلاب. وكأن الشعب
المصري "مختوماً علي القفا"، فلا يعلم أن عدلي منصور، ليس أكثر من واجهة، وأن من يدير الدولة بعد الانقلاب هو عبد الفتاح السيسي، الذي طلب تفويضاً منذ البداية لمواجهة "الإرهاب المحتمل"، وهذا ليس من اختصاصه الوظيفي، والذي كان يلتقي القادة الغربيين وغيرهم في زيارتهم للقاهرة. كما انه زار موسكو، وكان قولهم أن الزيارة تقع في دائرة اختصاصه، وذلك لتوقيع صفقة سلاح مع بوتين. وفي مقابلة تلفزيونية وعندما سئل عن صفقة السلاح.. تساءل: سلاح ايه؟!
تمسك عبد الفتاح السيسي بعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني المنحل إبراهيم محلب، كاشف عن انه من اختاره من قبل. ونفس الأمر ينسحب علي استمرار عدد كبير من وزراء محلب. سيقول قائلهم ان عدم التغيير الشامل مرده، أن الحكومة الحالية سترحل عقب الانتخابات البرلمانية، وليس من المناسب أن يتم التغيير الشامل في فترات متقاربة.
والسؤال" ولماذا تم تغيير حكومة حازم الببلاوي والبلاد كانت علي أعتاب انتخابات رئاسية، سيكون مطلوباً ان يجري تغيير الحكومة بعدها. فلم يثبت أن محلب نجح فيما فشل فيه الببلاوي.
الحكاية وما فيها، أن عبد الفتاح السيسي كان يريد أن ينسف حمامه القديم، فأبعد الببلاوي والذين معه من وزراء جبهة الإنقاذ، التي كانت تتصرف على أساس أنها شريكة في الحكم، كما كانت شريكة في انقلاب يوليو. فهي التي قادت التحريض علي الرئيس محمد مرسي، وهي التي مثل وجودها غطاءً سياسياً للانقلاب العسكري في 30 يونيه، تماما كما مثل شباب تمرد، وغيره في حركة السادس من أبريل، الغطاء الثوري للثورة المضادة.
لم يكن العسكر ليقبلوا ما اقترحته القوى السياسية والثورية بأن يكون رجل بحجم الدكتور محمد البرادعي رئيساً للحكومة. وهو الرجل القوى والشريك الحقيقي في الانقلاب بعد أن اقنع دول الاتحاد الأوروبي بالموافقة على إسقاط الرئيس المنتخب. فتم الدفع بحزب النور ليرفض هذا الاختيار، وبدا المجلس العسكري في حالة رضوخ الضعيف علي طلب الإبعاد هذا!.
ولم يكن مناسباً أن يكشف السيسي عن نواياه الحقيقية وهو يقدم نفسه علي أنه صاحب ثورة يناير ومن حماها، أن يجلب عضواً سابقاً بلجنة السياسات ليكون رئيساً للحكومة. فتم اختيار شخصاً ضعيفاً لكنه قيادي بأحد أحزاب الجبهة ليكون رئيساً للحكومة وهو حازم الببلاوي. ومعه مجموعة من الوزراء المنتمين لهذه الجبهة مثل نائب رئيس الوزراء زياد بهاء الدين، وكمال أبو عيطة عن حزب الكرامة، وحسام عيسي عن الحزب الناصري.
وقد استخدم الانقلاب هؤلاء في " الأعمال القذرة" وفي الشرعنة للاستبداد، ورأينا كيف أن وزير التعليم العالي حسام عيسي هو من أعلن قرار اعتماد جماعة الإخوان كجماعة إرهابية، دون ان يكون هذا من متطلبات عمله الوظيفي!.
ولم يكن مناسباً أيضاً أن يترك السيسي وزراء جبهة الإنقاذ، ليتخلص منهم في بداية رئاسته، فأوكل بالمهمة للمؤقت، تماماً كما أوكل إليه إصدار التشريعات سيئة السمعة، بينما يلملم أوراقه استعداداً للرحيل. ومن بين هذه التشريعات قانون الانتخابات البرلمانية، الذي يمثل تهميشاً لتجربة التعددية الحزبية. وقد أجريت الانتخابات البرلمانية السابقة علي قواعد الثلث للمقعد الفردي والثلثين للقوائم الحزبية. وذلك بعد ضغوط، فقد كان المجلس العسكري الحاكم بعد مبارك، يسعي لإعادة رجال الحزب الوطني، وأمثالهم، لكن الأحزاب احتشدت في مواجهة هذه الرغبة وناضلت من أجل التوسع في تجربة القوائم، فكان القرار في البداية بأن تكون الانتخابات نصفها للقوائم والنصف الثاني للمقعد الفردي، وبالنضال تم إقرار نظام الثلث والثلثين وقبلت به الأحزاب علي مضض!.
بيد أن السيسي الذي يعترف بأنه ليس سياسياً وان كان طمع في أعلي منصب سياسي في البلاد، يريد أن ينحي السياسية في عهده جانباً، وأن يهمشها، فكان القرار بأن يكون النظام الانتخابي المعتمد يعطي عشرين في المائة للقوائم، ويجوز للمستقلين أن يعدوا قوائمهم، فليس الأمر مقصوراً على الأحزاب. وكان القرار بأن يصدر هذا القانون "المؤقت" بدون مناقشة مع الأحزاب ودون التفات لمطالبها. وعلي قاعدة: " يا رايح كتر من الفضايح"
وها هو السيسي يشكل الحكومة علي ذات القواعد القديمة عندما تم تهميش السياسية، واختار مقاولاً هو إبراهيم محلب رئيس شركة المقاولين العرب ليستمر رئيساً للحكومة، وهو ليس بعيداً عن نظام مبارك فالذي اختاره في موقعه بالشركة هو واحد من وزراء الفساد في عهد مبارك: محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان. ومحلب كان عضواً في لجنة السياسات التي شكلها جمال مبارك، وهو يستعد لدولة يراعي فيها أن تكون بعيدة عن السياسة.
واذا كان القرار بأن يكون التغيير محدوداً في أول حكومة في عهد السيسي فقد روعي ألا يكون الوزراء الجدد ليس لهم سوابق سياسية، وبعضهم جيء به كمكافأة نهاية الخدمة. فوزير التعليم العالي هو السيد عبد الخالق، كان يشغل منصب رئيس جامعة المنصورة وهو الذي سمح قوات الأمن أن تقتحم الحرم الجامعي، كما سمح للشبيحة بذلك، للاعتداء علي الطلاب والطالبات المحتجين علي الانقلاب العسكري. وكان من المقرر أن يحال للمعاش في شهر سبتمبر المقبل لبلوغه السن القانونية.
ويلاحظ أن هاني ضاحي كان من "شلة جمال مبارك"، وقد تولي رئاسة العديد من شركات البترول، في زمن سامح فهمي، الوزير الذي عينه حسين سالم في منصبه، إلى أن أصبح رئيس الهيئة العامة للبترول، وعلى الرغم من بلوغه السن القانوني للإحالة للمعاش إلا انه استمر في موقعه بالمخالفة للقانون.
محفوظ صابر المعين وزيراً للعدل حكاية وحده، فهو المختار لمحاكمة القضاة الذين ينحازون للشرعية، وأصدر أحكاماً كثيرة بفصلهم. وهو من كان مسؤولاً عن لجنة التأديب والصلاحية وعرض عليه محاكمة النائب العام في عهد الرئيس مرسي: طلعت عبد الله.
بل المدهش حقاً أن يكون وزير شؤون مجلس النواب بلا خلفية سياسية، وليس له سوابق في ممارسة مهام عمله الموكول إليه، وهو المستشار إبراهيم الهنيدي، رئيس جهاز الكسب غير المشروع. ودوره الوظيفي سياسي اكثر منه قضائي بعد أحيلت له اختصاصات المدعي العام الاشتراكي بعد إلغائه. وبعيداً عن هذا التلامس الوظيفي بين القانون والسياسة، فانه يحظر عليه بحكم الوظيفة العمل بالسياسة، وها هو يصبح في منصب سياسي وبرلماني بدون سابقة أعمال أو اهتمام!.
الأكثر إثارة هو اختيار جابر عصفور وزيراً للثقافة، وهو آخر وزير في دولة مبارك!.
اللافت، أن دولة السيسي أعطت ظهرها تماماً لجبهة الإنقاذ، التي ظنت أنها شريك في الحكم، بعد دورها الإجرامي في إسباغ شرعية علي قطع المسار الديمقراطي. كما أن حركة تمرد، خرجت من المولد بلا حمص. ولا بأس في ذلك بعد أن وقف الجميع علي أنها من فعل الأجهزة الأمنية لتمهد لعملية الانقلاب علي الثورة.
واللافت كذلك، أن دولة السيسي قد أقصت تماماً كل من له علاقة بثورة يناير، لأنه في الأصل والفصل هو نفسه معاد لهذه الثورة، وانحيازه لمبارك بات معلوماً للكافة. والإقصاء جرى حتى بالنسبة لمن شاركوا في 30 يونيه. ولا وزير ناصري في دولته، والناصريون منذ الانقلاب وهم في حالة عشق عذري له لأنه عبد الناصر الجديد. فها هو عبد الناصر يطبق مشروعه برجال مبارك ونجله جمال!.
وهو مشهد ليس منبت الصلة بما قبله. ففي خطاب التنصيب كان المشير طنطاوي وعصام شرف على رأس الحضور وفي الصفوف الأولي وهما من عزلتهما الثورة وبقرار منها.
إن السيسي ينسف حمامه القديم. ولغير المصريين فإن الحمام يعني المرحاض. يبدو أنه يفضل قضاء الحاجة في الخلاء.