يسأل الكثيرون عن طبيعة المعركة الآن في
مصر. والجواب عن هذا السؤال يكمن في فهم تحولات الواقع، فطبيعة المعركة قبل رابعة بخلاف طبيعتها بعد رابعة بخلاف طبيعتها الآن، حيث أن اللحظة الحالية تجاوزت الشكل القديم للمواجهة، فقد أصبحت المعركة الآن هي بين النظام وبين إثبات ذاته وقدرته في الشارع، فهو يسارع الخطى نحو إثبات قدرته وجدارته على الإمساك بزمام الأمور، وأصبحت معركة النظام مع خصومة معركة تالية وليست أولية بعد تحول الفعل المعارض لشكل روتيني يهدف إلى إثبات الوجود أكثر مما يحاول أن يشكل بذاته خطرا على النظام!
فالمظاهرات الأسبوعية أخذت شكل الفعل اليومي المتكرر بأحجام متوسطة وصغيرة ما تلبث أن تتضخم كل أسبوع كما أنها ما تلبث أن تتداعى للتصعيد كل عدة شهور تحت عناوين إسقاط النظام.
لكن حتى مسارات التظاهر وأنماط التصعيد لا توحي بأي احتمالية لأن تشكل خطرا حقيقيا على "وجود" النظام، وإن كانت تشكل عملية استنزاف بطيئة للفعل السياسي للنظام ولاقتصاده، لكن منذ دخول المعركة طورا جديدا وهو وصول
السيسي للرئاسة أصبحت طبيعة المعركة مختلفة في جوانب كثيرة، إذ أن الأداء الميداني للحكومة من حيث ضبط الأمن و المرور والتواجد الدائم ومعارك فرض الهيبة بالقوة الأمنية وعمليات الرصف وتمهيد الطرق وخلافها أصبحت ثمناً مقنعاً لفريق واسع من المواطنين جراء تغاضيهم عن سياسات القمع أو حتى ملفات كالكهرباء وغيرها.
كما أن أثر الفوضى الأمنية والسياسية التي شكلت الصبغة العامة لعهد حكم مرسي وما قبله فترة الثورة - والتي لايخفى على كل ذي عقل تورط الدولة الأمنية في افتعالها تمهيدا لما يحدث الآن - هذه الصبغة حين يتم مقارنتها بعمليات الضبط الأمني الحالي والتواجد وفرض سيطرة الدولة تشكل أيضا حالة إيهام بالتحسن وإقناع للمواطن غير المسيس أن هناك احتماليات لاستعادة التوازن في الدولة ولو من خلال التغاضي عن ثمن القمع، وهو ما سعت الدولة الأمنية دوما لترسيخه أن القمع السياسي هو ثمن مناسب للانضباط في الشارع ويبدو أن قطاعا كبيرا من الشارع يقبل مثل تلك المعادلة .
وبرغم هذه الطبيعة الجديدة للمعركة والتي تحتل فيها رغبة الدولة الجامحة في تقديم نفسها ومشروعها بشكل مقنع للمواطن مرتبة أولى؛ وبرغم تحول ميدان المعركة بالنسبة للدولة من أولوية مواجهة التظاهر لأولوية إثبات الذات، إلا أن كل ما يحدث هو رتوش تجميلية لواقع اقتصادي مرير وسياسات اقتصادية ستكون موغلة في التقشف تخفض الدولة من خلالها مستوى دعمها هذا العام بنسبة 30% من الموازنة الخاصة بالدعم وهذا سينعكس بشكل كبير على حياة المواطن الذي يتم تخديره الآن بمسكنات الأمن وتحسين الطرق وعمليات إزالة التعديات على الطرق والميادين، وسرعان ما ستظهر موجات جديدة من التذمر وأشكال فئوية من الاحتجاج لم تسلم منها أي موجة تقشف في العالم .
وتمثل قدرة الخطاب الثوري والمعارض والإسلامي على تجاوز طبيعة المعركة الماضية وفهم طبيعة الحالة الجديدة عاملا مهما وفعالا في عملية التوظيف الجيد لانتكاسات النظام وبرنامجه، عبر العودة من جديد للمواطن والدخول لمساحات كان النظام حريصا على عزل الحراك عنها. وأستلهم في ذلك مثالا حصل منذ أيام برغم سطحيته وعدم دلالته الكافية على ما أقصد إلا أنه يشكل مدخلا مهما لفهم ما يمكن أن يكون في دوائر أوسع من تلك الحالة الضيقة، ففي الإسكندرية استطاع المتظاهرون لأول مرة من شهور تجاوز الخصومة الثأرية بينهم وبين أهالي المنشية ومحطة الرمل والقيام بالتظاهر ضد النظام في منطقة تعد أهم معاقله عقب قيام قوات الأمن بمصادرة أكشاك الباعة والقيام بإزالات استهدفت الأسواق الشعبية فيها، مما مكن المتظاهرين من العبور لأول مرة بسلام عبر تلك المنطقة
وملخص ما أود قوله؛ هو أن مرحلة الثورية المطلقة ربما تراجعت بشكل كبير أمام المعارك الجزئية الأخرى وعدم قدرة الإخوان أو حراكهم فرض صيغ ثورية حقيقية تشُل قدرة النظام على الوصول لشكل مستقر للدولة، كما أن الدولة فعليا فرضت معارك داخلية على الإخوان وحراكهم متمثلا في أولوية قضايا المعتقلين وأولوية قضايا المعتقلات وهي بالنسبة للشارع قضايا تُشَكِل همَّاً خاصاً بمجموعة بعينها، وليست من القضايا التي يتضرر منها عموم الشارع؛ بل إن النظام يوحي للمواطنين أنهم مستفيدون من انعكاسات الاستقرار التي توفرها عمليات الاعتقال والقمع. وبهذا ينتقل خطاب مظلومية المعتقلين بالإخوان من فكرة الحرية والدولة المتحررة والشرعية والفساد والظلم العام وهو شأن عام، إلى المظلومية الخاصة والشأن الخاص، وهي حالة سعى النظام دوما لفرضها عبر فرض واقع الاعتقال .
ليس ما نقوله هنا عبارة عن عملية ترويج لـ "اليأس" من الحراك الحالي، بل هي محاولة صادقة وجادة للفت نظر القائمين والمتحركين إلى أن قواعد اللعبة تغيرت، وربما كان العامل الكبير في هذا التراجع هو أخطاء الحركة نفسها وتعاليها المتكرر عن دلالات الواقع وشواهده، كما أن استمرار اللعب في واقع جديد بقواعد قديمة ربما يورط الحركة مجددا في واقع أكثر سوءاً من الواقع الحالي .
لا يمكن أبداً مواجهة واقع كهذا بمحاولة بث "أمل" كاذب أو استنهاض الهمم في مسار قديم خاطئ، فاليأس في جانب منه قد يكون أحد عوامل النصر كما أن الأمل في جوانب منه قد يصبح أحد أسباب الهزيمة. إن الإدراك الحقيقي لحجم الكارثة وجوانبها خير ألف مرة من ترديد عبارات من الأمل الكاذب تزيد الواقع سوءا وتزيد المخطئ ثقة بأخطائه !!