كتب أسعد عبد الرحمن: كثيرة هي الخسائر المباشرة لدولة الكيان الصهيوني جرّاء حربها على قطاع
غزة، والمتمثلة في الخسائر البشرية العسكرية، الفعلية والمعنوية، وبخاصة مع ارتفاع عدد قتلى جنود جيش «الدفاع» (الذي طالما تباهوا بأنه «لا يقهر»)، فأصبح يقهر بفضل العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، فضلا عن الخسائر الاقتصادية في مجالات السياحة والاستثمار، ناهيك عن خسائر سياسية، وأخلاقية، وإعلامية، وبالذات على الصعيد الجماهيري العالمي.
ولربما يكون أهم ما في الحديث اليوم عن الخسائر الاستراتيجية
الإسرائيلية مسألة ضرب "الحلم" الوارد في "لفكرة الصهيونية" المرتكزة على زعم جعل "إسرائيل جنة الله على الأرض التي تفيض أمناً واستقراراً ولبناً وعسلاً".
يتكشف الواقع الإسرائيلي الحالي عن تسارع ترسيخ وترويج «عقلية القلعة»، القائمة على العنصرية والاستعلاء وكذبة «شعب الله المختار»، وعقلية «عقدة الماسادا» المفضية إلى انتحارهم بعد أن حاصرهم الجيش الروماني لسنوات. واليوم، تحيط إسرائيل نفسها بجدران إسمنتية على الأرض، وأخرى نفسية تعشعش في العقلية اليهودية قوامها الرفض والخوف من الآخر («الغريب») الذي هو «الجحيم»، وإن الحل، دائماً، يكمن في رفع جدران القلعة!
غير أنه في ظل الحرب على غزة، انقلب هذا التعليم الشاذ على رأس الدولة الصهيونية سلباً. فالحرص الزائد في الحفاظ على حياة اليهودي جعل الدولة تسعى جاهدة، وبصيغ مبالغ فيها، لإنقاذ يهودها (تحديداً) من أي إصابة، الأمر الذي خدم هدف المقاومة الفلسطينية، فانتشر الرعب والهلع وبات ثلاثة ملايين إسرائيلي يكثرون من العيش في الملاجئ هرباً من الصواريخ.
طوال السنوات العشر الماضية، شهدت هجرة اليهود إلى «إسرائيل» تراجعاً حاداً مقارنة بمعدلات العقدين السابقين، بعد أن كانت تسعينيات القرن الماضي قد شهدت معدل هجرة يقترب من مئة ألف مهاجر سنوياً.
وقد أكد المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي تراجع أعداد الهجرة اليهودية «القادمة» من 70 ألف مهاجر يهودي، سنوياً، خلال تسعينيات القرن الماضي إلى 22 ألف مهاجر فقط خلال 2013. وبالمقابل، تفاقمت ظاهرة الهجرة المعاكسة بما يضيف إلى 800 ألف شاب وشابة من اليهود الإسرائيليين الذين يعيشون بصفة دائمة خارج «البلاد»، والذين لن يتشجعوا على العودة في ظل حالة «إسرائيل الراهنة».
وهذا كله، يكشف زيف الادعاءات الصهيونية بخصوص ارتباط اليهود ارتباطاً عضوياً بـ«أرض الميعاد». فالهجرة المعاكسة هي ضربة للمشروع الصهيوني الاستيطاني، إذ يؤمن الكثير من اليهود أن أمنهم وأمن عائلاتهم أغلى من كل ما يمكن أن تقدمه الدولة الصهيونية، وأن الغرب يبقى الحاضن الآمن الأول لهم، وليس «دولة إسرائيل».
تقول افتتاحية لأسرة التحرير في «هآرتس» الإسرائيلية: «من المشكوك فيه جداً أن يكون في الحرب الحالية منتصرون. أما المهزومون فيوجدون فيها منذ الآن. فالصدوع العميقة التي ظهرت خلالها في النسيج الديمقراطي الإسرائيلي (العنف ضد اليساريين والليبراليين اليهود وفلسطينيي 48) من شأنها أن تبقى لزمن طويل.
هذا ضرر خطير وبعيد المدى ولا يمكن لأي انتصار في ميدان المعركة أن يغطي عليه». وفي مقال مميز بعنوان «كيف كسبت حماس: نجاح إسرائيل التكتيكي وفشلها الاستراتيجي»، تحدث المدير التنفيذي لـ«معهد إسرائيل»، آرييل أيلان روث، عن بدء زوال ما كان يسمى «طبيعية» إسرائيل و«استقرارها»، وقال: «بغض النظر عن كيف ومتى ينتهي الصراع الأخير بين حماس وإسرائيل، فإن هناك أمرين مؤكدين. الأول هو أن إسرائيل ستكون قادرة على ادعاء انتصار تكتيكي.
والثاني هو أنها ستعاني من فشل استراتيجي». وبعد أن يعدد الكاتب جملة من الخسائر المباشرة الإسرائيلية، وبخاصة على الأصعدة الإعلامية والسياسية والاقتصادية، يختم بالقول: «في نهاية المطاف، سوف تذهب هذه الجولة لصالح الفلسطينيين. وينبغي أن لا يعمي التركيز على النجاح التكتيكي إسرائيل عن الأخطار التي تواجهها من هذه الهزائم الاستراتيجية المتكررة».
أما الكاتب جلعاد اتزمون فتحدث في مقال بعنوان «نهاية إسرائيل» عن أن «إسرائيل لا تستطيع كسب هذه الحرب ولا تملك جواباً عسكرياً للمقاومة الفلسطينية. إسرائيل متورطة مجدداً في جرائم حرب ضد المدنيين.. إن هزيمة جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة تترك الدولة اليهودية بدون أمل ومعنوياتها متواضعة. فإذا أصررت على العيش في أرض الآخرين فالقوة العسكرية عنصر مهم لتجاهل حقوقهم وطموحاتهم. لم يعد هنالك مستقبل لدولة يهودية في فلسطين، فلربما عليهم البحث عن مكان آخر».
لطالما روج مفكرو وقادة الدولة الصهيونية بأن «إسرائيل» هي نموذج الدولة الديموقراطية العصرية التي تعيش في «فيلا» وسط غابة تكثر فيها مستنقعات التخلف والرجعية والديكتاتورية، وأنها باتت واحة الاستقرار الوحيدة وسط بلدان عربية أصبح غياب الاستقرار صفة ملازمة لها.
غير أن هذا الأمر تغير مع تسارع الحروب على قطاع غزة، المقرونة بتعرية حقيقة الوجه الإسرائيلي البشع (احتلال فاشي عنصري آبارتايدي) ما يؤدي إلى سحب إسرائيل من مصاف الدول الديمقراطية، إذ هي تتحول تدريجياً إلى بلد غير مستقر ارتفعت فيه نسبة المتوحشين من عصابات المستوطنين. وكم هي الكتابات الإسرائيلية والغربية المتنورة الكاشفة لما آل إليه الحال في إسرائيل وفي صورة العالم عنها، وفي كل هذا مكسب استراتيجي إضافي.
إذن، «أرض الميعاد»، ذات الاستقرار والأمن والتقدم بكل المعاني العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وهو «الحلم الصهيوني الكبير» الذي روجت له الحركة الصهيونية لإقناع يهود العالم به، بات يتلاشى من أعين وقلوب الكثير من اليهود، فيما أدار آخرون ظهورهم له بعد أن تبينت لهم استحالة تحقيقه سوى بالحديد والنار، وبعقلية «عقدة الماسادا» التاريخية والخوف الأبدي من تكرار «الكارثة» التي وقعت في أربعينيات القرن الماضي، بما ينمي باستمرار عقلية اليمين الاستعماري الفاشي المنغلقة التي تفضي دوماً إلى حالة من السعار يعيشها المجتمع السياسي الإسرائيلي تدفعه إلى الانزياح باستمرار بعيداً عن «الحلم الصهيوني» سابق الذكر، مكرساً حركة المجتمع والسياسة نحو مزيد من اليمين والتطرف بحيث لا يرى العالم سوى عبر فوهة البندقية والمدفع ومنصات الصواريخ! وفي ضوء كل هذه التطورات، يشار إلى الضربات المستمرة للمقاومة، والتي سيؤدي تكرارها إلى انكسار «الحلم الصهيوني» الصلب، تماماً كما يتكسر الصخر تحت «ضربات» نقطة الماء.
وستتسارع عملية التكسير هذه كلما وجدت المقاومة الفلسطينية الحضن العربي (والإقليمي) الدافئ الداعم، وهذا شرط لا غنى عنه للنجاح، فإسرائيل ليست دولة من كرتون، ولكنها أيضاً ليست دولة من فولاذ لا يصهر.. ولا يقهر!
(عن صحيفة "الاتحاد" الإمارات 8 آب/ أغسطس 2014)