لن يترك
أطفال الصف الأول الابتدائي أيادي أمهاتهم، وربما سيبكون خوفا من ساعات معدودة يقضونها بعيدا عن البيت، عندما يبدأ العام الدراسي الجديد في قطاع
غزة، سيبكون قليلا ولكنهم وفور أن يغادروا مقاعد الدراسة، سيبتسمون فرحا للقيا الأحبة من جديد.
أما الطفل محمد رضوان، ابن الستة أعوام، فسيظل يبكي، ولن تجف الدموع على خديّه، وهو يُنادي على أمٍ رحلت ولن تعود.
لن يحظى رضوان بقبلةٍ تطبعها والدته على جبينه، بعد أن يرتدي ملابس عامه الدراسي الأول، ولن تحمل له اليد الحانية حقيبته الجديدة، وتُخبره بحب عن مكان "شطائر الجبن الساخنة"، فقد بات رضوان يتيما بعد أن قتلت
إسرائيل أمه، وأصابت والده بجراح خطيرة، جراء قصف منزلهم في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، نهاية شهر يوليو/ تموز الماضي.
وفي مثل هذه الأيام من كل عام، تبدأ الأمهات في شراء الزي المدرسي لأطفالهنّ، وتبدأ الطقوس الخاصة بشراء ملابس طلبة الصف الأول، غير أن الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، منذ أكثر من شهر، غيبّت هذه الطقوس المعتادة.
ويأتي صوت الطفل اليتيم باكيا مخنوقا وهو يُردد: "إيش بدي أسوي؟ وأمي راحت، والله بدي إياها، مش حأعرف أعيش بدونها، من حيمشطني ويلبسني؟".
وما من حروف على شفاه أطفال غزة الأيتام، سوى تنهيدات متقطعة، تصحبها دموع غزيرة، على أمهات وآباء رحلوا، وما عادوا معهم.
وفي إحصائية أصدرّتها وزارة الصحة الفلسطينية، مؤخرا، فإن "أكثر من 100 عائلة، تم قصفها وإبادتها بالكامل خلال
العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة".
وقالت إنّ "آلافا من الأطفال فقدوا والدتهم نتيجة هذا القصف، أو والدهم، وفي كثير من الحالات الاثنين معا".
وتبكي عائشة الشنياري، ابنة الثمانية أعوام، أُمّا لم تعد تحتضنها، وتُقبلّها وتُمشط شعرها، وتصنع لها ضفيرتين طويلتين، وتُمازحها بأنّها صارت كـ"القطة".
فقد استشهدت والدة الشنياري، في قصف إسرائيلي، استهدف إحدى مدارس الإيواء شمالي قطاع غزة، لتغدو يتيمة، لا أمّ لها.
وتذرف الطفلة دموعا حارة، وهي لا تكاد تُصدق أن أيامها القادمة ستغدو بلا أم، تُعد طعام الفطور، وتُرتب فراش النوم، وتُجادلها على شرب كأس الحليب بسرعة.
ولا تقوى الشنياري -التي فقدت ثلاثة من إخوتها في القصف الإسرائيلي، وتوفي والدها قبل سنوات في حادث سير- على الكلام، وتكتفي بأن تُتمتم: "أريد أمي، أحلم بها وهي تُمشط لي شعري، تقرأ لي قصة قبل أن أنام، أمي راحت ومش راح ترجع، بدي أروح عندها".
وعلى سريره، يبكي الطفل محمد وهدان، 3 أعوام، بعد رحيل والدته، جراء قصف إسرائيلي استهدف بيتهم في بيت حانون، شمالي قطاع غزة.
وتقول عمة وهدان، إن "محمد يظل يصرخ ليل نهار، دون أن تُفارق كلمة "ماما" شفتيه"، وتُضيف لوكالة الأناضول، وهي تبكي: "ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يمسوا أيتاما، بدون أم، ودون أب".
وفي داخل مستشفى الشفاء بغزة، يرقد عشرات الأطفال الذين تحولوا إلى أيتام، دون أن يعرف أكثرهم حقيقة أنهم حملوا هذا اللقب، وخسروا الأم أو الأب، ومنهم من فقد الاثنين معا.
وتحاول جدة الطفل مالك اليازجي 6 أعوام، أن تكذب عليه كلما سأل عن والدته "وين ماما".
ولا يُصدق الصغير اليتيم أن أمّه سافرت إلى العلاج إلى الخارج، وسوف تعود قريبا، إذ يواصل البكاء بحرارة أشد كلما أخبرته جدته أنها ستضمه قريبا.
وتقول "سعاد" 55 عاما: "حفيدي مالك يشعر أن أمه لن تعود، طوال الليل يستيقظ ويبكي، يريد أن يحدثها، ويُهاتفها".
ويرفض مالك تناول الطعام من جدته، كما تروي لوكالة الأناضول، وعندما صنعت له "البيتزا"، أخذ يصرخ: "مش هيك، ماما بتعملها، إنتو تعرفوش تعملوها، وينك يا ماما".
وتبكي الجدة كلما تذكرت أن حفيدها سيكبر دون أمه، وسيمضي بقية أيامه يسأل عن تفاصيل موتها.
ويقول رامي عبده، رئيس المرصد الأورمتوسطي لحقوق الإنسان، إنّ "الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة خلّفت آلاف الأيتام".
وأضاف عبده: "وفق إحصائيات المرصد، هناك 1800 يتيم جديد، انضموا إلى قائمة الأيتام في قطاع غزة، وهذه ليست مجرد أرقام، إذ نتحدث هنا عن آلاف الأوجاع، والجراح التي لا يمكن لها أن تشفى أبدا".
وأكد عبده، أن المرصد وثقّ استشهاد (144) أسرة فلسطينية قضى كل أو أكثر من 3 من أفرادها منذ بدء العدوان الإسرائيلي، حيث بلغ مجموع الضحايا من أفراد تلك الأسر أكثر من 750 فردا.
وأشار إلى أن "المعاهد المختصة برعاية الأيتام ستواجه أزمة في استيعاب آلاف الأطفال، وتقديم الرعاية اللازمة لهم".
ودعا عبده، المجتمع الدولي لوقف ما وصفه بـ"جرائم الحرب" تجاه أطفال غزة، وإسكات آلة "العدوان الشرسة".
ويبلغ عدد الأيتام في قطاع غزة قرابة 20 ألف يتيم بفعل حروب إسرائيل على القطاع أو الوفاة الطبيعية، وفق إحصائية لوزارة الشؤون الاجتماعية الفلسطينية.
وتقول اعتماد الطرشاوي، المدير العام للرعاية الاجتماعية بوزارة الشؤون الاجتماعية في قطاع غزة، إنّه "من الصعوبة في الوقت الحالي رصد عدد للأيتام، بسبب تعثر انتقال طواقم البحث الميداني، من مكان إلى آخر جراء العدوان الإسرائيلي".
وتؤكد الطرشاوي، أن "أكثر من 100 عائلة تم قصفها وإبادتها بالكامل خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأن آلافا من الأطفال فقدوا والدتهم نتيجة هذا القصف، أو والدهم، وفي كثير من الحالات الاثنين معا".
ويؤكد سنان فلفل، عضو مجلس إدارة "معهد الأمل للأيتام"، أن "معاهد الأيتام والمراكز المختصة باتت تجد صعوبة في استيعاب الأعداد المتزايدة للأيتام".
وقال فلفل إن "الطاقة الاستيعابية لمعهد الأمل تبلغ 120 يتيما، لكنه يحتضن اليوم أكثر من 700 يتيم، يحتاجون إلى رعاية مالية وصحية ونفسية".
وشرعت إسرائيل في السابع من يوليو/ تموز، بشن حربٍ على قطاع غزة أطلقت عليها اسم "الجرف الصامد"، تسببت باستشهاد أكثر من 2000 فلسطيني، من بينهم 570 طفلا، وفق تأكيد مصادر طبية فلسطينية.
ومنذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، لا يكاد يمر يوم دون أن يتحول عدد من الأطفال إلى أخبار عاجلة في قصف يحوّل أجسادهم إلى أشلاء، وقطع متفحمّة.
وحذرت مؤخرا، تقارير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، من مستقبل قاتم ينتظر 400 ألف طفل (في غزة) أصيبوا بصدمة، جراء الحرب الإسرائيلية على القطاع .